في هذا النصّ-الرّحلة، يُوثّق نزار حسَن رحَلاته المتكرّرة في جغرافية وتاريخ مدينة مجدل - غزة (مستوطنة أشكلون حالياً) الواقعة على بعد حوالي 40 كيلومتراً شمال غزّة. يتجوّل حسَن بين المنازل وفي حارات كانت في يوم من الأيام مسقط رأس عائلات فلسطينية عدّة، منها هنيّة وياسين... وغيرها. ومتى واجه عقبة في طريقه، طرح أسئلته على يَحْيَى مستنجداً.
سيّد يَحْيَى كيف حالك؟ أرجو أن تكون بخير.
أود أن أعترف لكَ قبل إجراء هذه المقابلة أنّني كنت قريباً من قرار التخلّي عن هذا النص وعدم التطرّق إلى الموضوع على الرّغم من أنّني أعشق مجدل غزة - مدينتك - وقد اكتشفتُها مصادفةً خلال فترة إنتاجي لفيلم عن عائلتي في بداية الألفية الثانية وقد احتوى الفيلم صوراً أرشيفية ومعلومات عن مجدل غزة.
كنت قد كتبتُ ما لا يَقل عن ثلاث مسودّات منذ شهر تموز 2023 بعد أن مشيت في مجدل غزة وجورة عسقلان يوم الجمعة في السابع من تموز، فأهملتُها جميعها وعدَلتُ عن الكتابة حتى وجدتُكَ.
بعد اكتشافي للمجدل صرت أغضب حين أقرأ عن مدن فلسطين، مثل يافا وصفد وحيفا وطبريا وبيسان وبئر السبع واللد والرملة وحتى الناصرة، بدون أن أجد كتابات وافية عن مدينة مجدل غزة. حتّى إنَّ معلوماتي المتواضعة كانت أكثر شمولاً ممّا وجدته في تلك المراجع.
اكتشفتُ المدينة بواسطة أرشيف الصهاينة. قرأت أنها كانت أعظم مدن فلسطين في مجال صناعة النسيج وكانت فيها مدرسة ثانوية للبَنين وكانت تفتَخر أنّها من أولى المدن الفلسطينية التي فتحت باب العلم والتعليم للبنات فكانت فيها مدرسة للبنات، هكذا يكتب السيد عارف العارف1. فبَدَت لي، بحسب أرشيفهم وكتاب السيد عارف العارف وزيارتي لها، أنها مدينة مواكبة لعصرها، غنيّة ولا تحتاج إلا لأهلها، ولم يحتَج أهلها إلّا لمدينتهم، ربما على عكس المدن الفلسطينية الأخرى التي يعزو البعضُ (أحياناً افتراءً أو انبهاراً بالمستعمِر) أنَّ تطوّرها سببه الغرب أو التأثيرات الغربية. فعلى سبيل المثال، يعزو "مؤرخ" فلسطيني تطوُّر حيفا إلى الألمان الهيكليين، مستعمري فلسطين الأوائل في حيفا. وهذا الموقف على نقيض مع ما نعرفه من أنَّ العثمانيين هم من دفعوا بحيفا لتصبح من أهم مدن فلسطين. والملفت أيضاً أن المثقفين الفلسطينيين ومخترعي مصطلح "الذاكرة" و"التذكّر" يطلقون على "مجدل غزة" تسمية "مجدل عسقلان". وكما نعلم، هناك ما لا يقل عن سِتّ قرى ومواقع في فلسطين اسمها المجدل مثل "مجدل طبريا" و"مجدل يابا" و"المجيدل" و"مجدل شمس".
لقد بحثت عن أشخاص وسجلّات لتحديد أصحاب البيوت والحقول، وعن مواقع المدارس ونولات الغزل والنسيج والمقاهي ومحطات الوقود والمرافق الصحية والصيدليات والدوائر الحكومية والبريد والمقاهي، وعن وجوه الناس من نساء ورجال وأطفال وشيوخ ومساجد وطرق. كان الهدف إعادة استكشاف واكتشاف مدينتك التي عشِقتُها، ولم أجد أحداً… قالوا لي أنَّ الجميع "هَرَب" إلى غزة وأنّكَ وُلِدت في مخيم خان يونس لعائلة تعود أصولها إلى مجدل غزة. ولاحقاً عَرِفت أن بعض عائلات مدينتك هُجّروا إلى اللّد والرملة.
في كل الأحوال، أنا سعيد لأنّكَ وافقتَ على إعطاء كلّ المعلومات التي تعرفها عن مدينتكَ على الرغم من كونك وُلدتَ لاجئاً.
وأخيرً، كما اتفقنا، فلن أتطرّق في حديثي معك إلى أي جوانب ومواضيع سياسيّة.
هل نبدأ؟
1 عارف العارف، موجز تاريخ عسقلان, 1943.
					5 تشرين الثاني 1948. المصدر صهيوني. يظهر في خلفية الصورة أهل المدينة يمارسون إعمالهم بصورة طبيعية. على الرغم من اعتمادنا على صورة لاحتلال الصهاينة لمجدل غزه كصورة أولى في هذا النص، قررنا التحفّظ عليها من خلال هذه الملاحظة.
إنها الساعة السابعة صباحاً. ها أنا أقِف أمامَ ما يُسمّيه المستعمِر "دار الأثرياء". أبدأ من هنا كلّما قررتُ المشي في المجدل. وهذه ربما المرّة السادسة. لم تسحرني مدن فلسطين كما سحرتني هذه المدينة.
ألتقط الصُور من نفس الزوايا في كل مرة أزورُ فيها المدينة… من الشرق، من الغرب، من فوق، من القِبلة ومن الشمال. أستدير دائماً نحو المكان نفسه، أي إلى الغرب، حيث الجامع الكبير الذي ما زال قائماً هناك. لكنّ المستعمِر أطلق عليه إسم "الخان" وحوّله إلى معرض صور ورسومات من أبشع ما يمكن أن تقع عليه العين.
أتّجِهُ إلى باب الجامع، أدخُل وأنظر من حولي لأتأكد من أن جميع المستعمِرين المتواجدين هناك ينظرون إليّ، فأرفع يدَيّ وأبدأ بقراءة سورة الفاتحة، ولا أعرف إن كانت تلاوتي صحيحة، ولكنّي أتأكد من تلاوتي "بسم الله الرحمن الرحيم" بصوت يسمعه الجميع ثمّ أختم "الحمد لله ربّ العالمين" بنبرة أعلى.
أَخرُجُ من ساحة الجامع وألتفتُ إلى الجهة الشمالية. المكان مُغلق ولكنه سيفتح لاحقاً. إنه مطعم يقدم المأكولات الإيطالية. أقرأ اليافطة، التقط الصوَر، وأعود إلى الشارع العام أو الشارع الرئيسي الموجود منذ أن احتلَّ الصهاينة واستعمروا المدينة. يخترق الشارع مجدل غزة من الشمال الى الجنوب، ويُقال، حسب ما قرأته عن مؤرّخ صهيوني2، أنَ شارعاً آخرَ كان يخترق المدينة من الشرق إلى الغرب، فيتقاطع الشارعان عند زاوية التميمي. الشارع في غاية الجمال، قدّ تصادفه في أيّة مدينة صغيرة هادئة عائلاتها ميسورة ولكن بعيدة عن البذخ، مدينة نظيفة يطغى عليها عُمران يشبه فلسطين، أو لِنَقُل العمران الذي اعطى هذا المكان محتوى فلسطيني.
تصيبني حالة من الزهو. فالمكان خليط بين الحضر والريف الهادىء. أنظر إلى جانبيّ الشارع: دور ومبانٍ كثيرة ما زالت على حالها رغم تعرّض بعضها للهدم، وتهجير جميع أهلها. أقف أمام باب عربي عثماني يبدو أنه أقدم من الاستعمار الصهيونية لفلسطين. التقِطُ صورة ثمّ أتقدم وأنظر إلى دكاكين مُعظمها مُغلق، في حين يقوم بعض أصحاب المحلّات المستعمِرين بفتح بعضها. أُعرِّجُ على جهة الشرق، أدخلُ زُقاقاً: روعة!.. المنازل ما زالت على حالها منذ أن هجَّر الصهاينة أهلها عنوة. يبدو أن ساكنيها كانوا ميسوري الحال، وأغلب الظن أنها في ربع (حيّ) الطلسة كما هو مّدون في خارطة المدينة للدكتور شريف كناعنة3. أطرُق أبواب المنازل ولكن لا أحد يفتح الأبواب. مستعمر جاء حديثاً من روسيا يقول إن أصحاب البيوت وساكنيها لا يخرجون منها وهم كبار السن، ثم يعبّر عن استغرابه أن أحداً لا يردّ. يضيف بالعبرية الروسيّة: "المنازل جميلة، كانت للعرب الذين هربوا".
2 Sasson, Avi. "Historical geography of the Palestine southern coastal plain in the late Ottoman period–the Ashkelon region as a case study."
3 شريف كناعنه ورشاد المدني، مجدل عسقلان، 1986 بير زيت.
						بيت الأثرياء
						خارطة مدينة مجدل غزة ويظهر في الجهة الغربية شارع السّنوار!
						دكاكين مغلقة
						منازل جميلة
العزيز السيّد يَحْيَى،
أتقدّمُ جنوباً في الشارع الرئيسي وابتسامتي لا تفارقني. في كل الأحوال، إنه يوم الجمعة وهو عيدٌ بالنسبة لي لأنه موعدي الأسبوعي مع المشي في وطني وإعادة اكتشافه. ولأن المشي يبدأ باكراً والتحضير يبدأ مع لحظات الفجر الأولى، وأحيانا قبل موعد صلاة الفجر، فإنّي أدمنت سحر قطر الندى والهدوء والضوء اللطيف قبل بزوغ الشمس. أبقى على هذا الحال سعيداً ومفعماً بالنشاط والإنفتاح على العالم والبشر حتى أخطو آخر خطوة من مسيري. يزيدني زهواً أنَّ المدينة وشارعها ما زالا فلسطينيين! جوهرُها شكّلتهُ زقاقاتها وأبنيتها. يشرح أحد المؤرخين المتصهينين كيف وزّع الحاكم العسكري المنازل على المستوطنين بعد أن قررت السلطات الصهيونية توطين مستعمرين جاؤوا بهم من كل أنحاء المعمورة. وبما أنّ وسط المدينة وبيوتها كانت من أجمل البيوت وأرقاها (معظمها من حجر الصوان وليس من الطين) فقد أُعطيَت لليهود المستعمرين "الأشكناز" كما يسمّيهم، والمقصود بهم يهود أوروبا الشرقية أي "الاوستيودِن" (Ostjuden)، ولم يسمح للمستعمرين المتصهينين (أي أولئك القادمين من الدول العربية كاليمن والعراق والمغرب) بالسكن في هذه الدور4. ووسط المدينة كما تبين خارطة الرسم البياني لمجدل غزة، في كتاب شريف كناعنه، هو جزء من ربع المدهون حوش العلمي وربع ابو شرخ والخطيب جنوباً. كل شيء هنا ما زال على حاله منذ أن مشيت في هذا المكان قبل نحو خمس سنوات. الفارق الوحيد هو أن المستعمِر نصَبَ لافتات تعريفية لأماكن يسمَيها "أثرية" خاضعة لقانون الحفاظ على المنشآت التاريخية.
إنها الساعة السابعة والنصف صباحاً. على يميني شرقاً، في ساحة المقهى، تجلس زُمرة من خمسة رجال مفتولي العضلات على قارعة الطريق، أتمعّن في النظر إليهم فتقع عينيّ على واحد من أصحاب الأجسام الضخمة، أحدّق بخاصة في وشم بارز على ذراعه، ينظر إليّ نظرة متفحصة ينتابها الشكّ والفضول الزائد. أبادره التحيه بالعِبرية حتى أُبعِدَ الظّن، يردّ عليّ ويسألني فوراً أن أعرّف عن نفسي ومن أين جِئت. أُجيب: أنا من الناصرة، طالب درجة دكتوراه وأُجري بحثاً في المدينة. يردّ: "ولماذا تكتب عن هذه المدينة وأنت من الناصرة؟ عليك الكتابة عن الحريري وبكري"، ثم يضحك ضحكة عالية مع رفاقه ثم يرتشفون القهوة بتزامن مذهل، فأسمع صوت الرشفة تقاطع ضحكتهم المجنونة. أستغرِب كلامه. فما علاقة آل الحريري في بيروت وذاك الممثل الذي زار بيروت؟ إلا أنني أتدارك حالاً الموضوع. فهؤلاء الشبّان الجالسين أمامي لا بدَّ أنهم ينتمون إلى عالم الإجرام وعصاباته وهم في هذه الحالة يقصدون عائلتي بكر وحريري في الناصرة واللتان يدور بينهما صراع دموي على مناطق نفوذ الخوات والقروض غير المشروعة والخارجة عن المنظومة البنكية. أضحك عالياً فينضم إليّ الجميع بضحكة هستيرية تُوقظ وَسط المجدل. يصرُخ زميلهم في صاحب المقهى بأن يحضر لي قهوتي ويطلب منّي الجلوس ولكنّي أعتذر. أحتسي القهوة وقوفاً وأتابع سِيري بعد أن أشكر لطفهم من أعماق قلبي.
على بعد عشرين متراً أو أكثر تقبع طاولات وحولها كراسي فارغة من الروّاد ما عدا طاولة وحيدة. هناك يجلس شخصان يحتسيان الجعة مباشرة من زجاجتين ممتلئتين، وعلى طاولتهم الكثير من الزجاجات. أتقدّم باتجاههم فيلفت انتباهي بناء جميل يقع على يميني في الشق الغربي، يشبه بجدرانه الصفراء اللون بيوتنا الكولونيالية الأوروبية، ويسميها الأوروبي وبعده ابن المستعمرات المبهور بمستعمِرِه بـ "الحديثة". هي كناية عن عمارة من الاسمنت والحديد ذات الشكل والخطوط البسيطة. أقرأ اليافطة التي وضعها المستعمر للتعريف عنها: "هذه العمارة تاريخية، كانت مركزاً صحياً لشركة تابعة لنقابة عمّال الصهاينة… أما قبل ذلك، حتى 1948، فكانت "مجمع عيادات عربي للصحة". لا ذِكر في اللافتة لإسم المجمع الصحي أو العيادات. لا أعرف ولست متأكداً إذا كانت هذه المنشأة مكان عيادة العيتاني وصيدلية شاتيلا الملاصقة لها، شرقا، في مدينة يَحْيَى. أمّا مقابلها غرباً فكانت تقع عيادة ثيودورسي وعيادة الصحة لرعاية الطفولة. إنه وسط البلد وكان يعج بالمقاهي. هل المقهى الذي كنت فيه الآن هو مقهى محسن المدهون؟ أم إنّه مقهى سعيد كفيني؟ أم مقهى صمد الجديد الذي يشارك عيادة العيتاني نفس العمارة؟ كان في هذه الناحية من المدينة ستة مقاهي، وأشهرها "مقهى كفيني" الذي كتب عنه عارف العارف قائمقام غزة، والأرجح أنّ كتابه عن مدينة مجدل غزة وجورة عسقلان هو الأكثر مصداقية ويشير فيه أن إسم المقهى هو "كغيني" وليس "كفينة". فهل كان خطأً مطبعياً أم خطأ قراءة من جهتي؟
ولكن الأهم هو أن هذا المقهى كان ملتقى المثقّفين والمفكّرين والمهتمّين بالشأن العام من أبناء المدينة وقضائها، وكان يفصلها عن مدرسة البنات زقاق يؤدي الى المسلخ البلدي كما يشير كتاب شريف كناعنه.
ألتقطُ صوراً للعمارة التي كانت في يوم من الأيام مقهى وعيادات على ما يقول المستعمِر. ولكني لست متأكداً… ربما كانت منزل رئيس البلدية السيّد أبو شرخ. أسيرُ بضعَ خطواتٍ وأقترِبُ من الصّديقين وزجاجات البيرة تتراكم أمامهما على الطاولة. بعضها فرّغت حمولتها في بطونهما وبعضها الآخر ينتظر دوره. أنظر إليهما بعَطف، لا أعلم كيف راودني هذا الشعور. لم أر شخصين وصلت بهما حالة السّكر هذه في مثل هذه الساعة منذ أن كنت أسافر في زيارات متتالية لامرأة من إحدى الدول الاوروبية كانت تجمع بيننا علاقة حميمة. وكان يقبع في مدخل عمارتها فرقة من الرجال وما بين أربعة أو خمسة صناديق من الجعة يحتسونها حتى الثمالة ويغادرون المكان مساءً ليعاودوا الكرّة في صباح اليوم التالي.
4 داني بار معوز وبراخا طال، من غربة اليمن الى مجدل - جاد ، 2023 (بالعبرية)
								ألتقطُ صوراً للعمارة التي كانت في يوم من الأيام مقهى وعيادات على ما يقول المستعمِر. ولكني لست متأكداً… ربما كانت منزل رئيس البلدية السيّد أبو شرخ.
اقتربتُ من طاولتهما وحييتهما بالعِبرية "ردّا التحية بأحسن منها" ثم
سألتهما عن أصولهما فأجاباني بأن ذويهما قدموا من اليمن سنة 1949، "طَرَدوا العرب وأُدخِلنا مكانهم". أردف الثاني قائلاً: "لا فرق بين ما عملوه بالعرب وما عملوه بنا، هذه بلدة عربية، كل ما تراه هنا للعرب".
سألته: "هل تريد العودة الى اليمن؟" أجاب وعلامات السكر واضحة عليه: "لا حول لي هنا ولا حول لي هناك، لقد دمّرونا". قلت له "أعرف… فأنا من الناصرة ولا بد أن نتحرّر. أملي أن نتحرّر وإيّاكم يوماً ما. فأجاباني: "يا ريت".
وعند سؤالهم عمّا إذا كانا يتكلمان العربيّة أجابا بأن أهلهما كانوا يجيدونها ، أمّا هما فلا يفهمانها جيداً وبالكاد يمكنهما التحدّث بها. أردفَ أحدُهما: "حين أتينا إلى هنا كان العرب لا يزالون يعيشون في المجدل، حَمَلوهم وطردوهم في الخمسينيات ولم يبقَ إلّا عائلتين رفضتا ترك المدينة. أسأل: "تعرِفها؟" يجيب: "نعم، تسكُن إحداها في أقصى الجنوب أما الأخرى فأعتقد أنها تقيم في المساكن الجديدة."
الطقس جميل والجوّ لطيف والإكتشافات تفيض سعادة. أشعر بسعادة عارمة حين أعيد إكتشاف ما أمزّق البرقع الصهيوني عنه. وأكون أكثر سعادة حين اكتشف أولئك الذين يمزقون البرقع الصهيوني عن وجوههم وما أقلّهم في وطني. كان الفلسطينيون في يوم من الأيام أهل البلد. أمّا اليوم، فالبرقع (والمقصود بالبرقع هنا هو الإشهار عن الهوية) على وجوه كُثُر منهم وعلى وجوه أولادهم وأحفادهم، برقع سميك أصبح جزءًا من شخصيّتهم. إسرائيليون بامتياز. ولم يخطئ من أطلق عليهم تسمية "عرب اسرائيل" إشارة إلى لغتهم ووظائفهم وعقليتهم وجمعياتهم "الوطنية" وخبرائها "محلّلي" المجتمع الإسرائيلي في الفضائيات العربية وهم لا يعلمون أن كل ما فيهم تقليد لكل ما هو صهيوني. يتنافسون على وظائف "خبراء" في الشأن الإسرائيلي في بلاط الملوك والمشايخ وقبل ذلك عند الرئيس النازي الصغير وأبيه.
أتابع سيري، مندهشاً، بعد أن ردّ الرجلان الثملان على وداعي لهما برفعهما علامة النصر في الهواء.
ألتفت يميناً، هنا كانت حديقة البلدية وخزانات المياه.. لا أثر لها.
السيد يَحْيَى
(أعرِف أعرِف، سنتحدث عن ذلك لاحقا فأنتم الوحيدون الذين سُمّي شارع باسمكم. واللافت أنه كان ملاصقاً لحَوش إحدى أهم العائلات المقدسية، على رغم أن الجميع يصنف عائلتكم كأصغر العائلات في مجدل غزة ولكن فلنتحدث عن ذلك في النهاية)
سقطت مجدل غزة في أيدي الاستعمار البريطاني في 19/11/1917 وبقيت تحت حكمهم حتى 5/11/1948 عندما تسلّم الاستعمار الصهيوني فلسطين من البريطانيين، ممّا أدّى إلى مقاومة فلسطينية لم تفلح في الدفاع لا عن المجدل ولا عن فلسطين. قبل احتلالها من قبل الصهاينة، كان عدد سكان المجدل بين 12 ألف و 13 ألف نسمة5 بقي منهم 2500 نسمة تقريباً.
تشير المصادر الصهيونية إلى أنّ 800 منزل دُمِّر في المدينة، إضافة إلى تلك التي لم تعد صالحة للإستعمال. أمّا القرى المحيطة والقضاء، فمُسحت معالمها وسُوّيت بالأرض، ولم يبقَ منها سوى عدد قليل جداً من جدران المنازل. والقرى المحيطة هي: حمامه، السوافير، كوكبا، الخصاص، جورة عسقلان، نعليا، الجيه، كرتيا، حليقات دمره، دير سنيد، بيت دراس، بيت طيما، تل الفراني، جولس وغيرها.
بعد الاحتلال مباشرة احتارَ المحتل في تحديد مصير من بقي من أهل مدينة المجدل. كان القرار النافذ قد قضى بتركهم لكي يُعلِّموا المستعمِرين صناعة النسيج لتكون المجدل مدينة الغزل والنسيج في المستعمَرة أو ما يطلق عليه "عربياً" ودولياً "دولة إسرائيل". قبل "الدولة"، كانت المجدل مُقسَّمة إلى أرباع وهو الإسم المستخدَم للأحياء في اللهجة الفلسطينية أحياناً وبلهجة أهل مجدل غزة دائماً6.
من الواضح أن الربع الغربي وهو ربع (حارة) عائلة شقور، قد أزيل بالكامل وأن حارة الطلسة المحاذية لربع المدهون قد أزيلت أيضاً. كان ربع زقوت يسمّى الحي الشمالي، وهو ربع صغير. في إعادة صياغة لجغرافيا مجدل غزة بعد استعمارها، يذكر مؤرخو الصهاينة فقط ربع المدهون.
بداية الاستيطان أو التبديل الديموغرافي بدأت في الأشهر الأولى للاحتلال. والمستعمرون الذين استوطنوا منازل مهجّري مدينة مجدل غزة هم صهاينة قَدِموا من رومانيا. يدّعي المستعمرون - المتصهينين العرب الذين جاؤوا من بعدهم من اليمن والمغرب أن أولئك استوطنوا في الأماكن الفاخرة والأكثر رفاهية في مجدل غزة.
في 1949، بدأ مستعمرون من متصهيني اليمن بالوصول عن طريق حملة تهريب جماعي لهم من أرجاء مختلفة من اليمن، وقام الصهاينة بتجميعهم في "معسكر حاشد" (الملفت هنا أن الصهاينة أطلقوا على هذا المكان إسماً صهيونياً-عبرياً هو "معسكر جؤولا" - أي الخلاص!)7.
كان المتصهينون المستعمِرون من اليمن يشكّلون ثلث المستعمرين وكان عددهم سنة 1950 ثلاثة آلاف، إلى جانب أولئك الذين سكنوا في منازل أهل مجدل الملاصقة لمنازل المجادلة الذين لم يتركوا مدينتهم، وعددهم 2500. سكن من بقي من أهل مجدل غزة في ربعان (حارات) مختلفان، إلّا أن الحاكم العسكري مُمثّل المستعمِر أصدر قراراً إدارياً عسكرياً يقضي بجمعهم ونقلهم إلى حارة الزقوت. بحسب أحد المستندات المودعة في "أرشيف الدولة"8 (اسرائيل)، يطلق جاد ماخنيس9، مساعد وزير الشرطه آنذاك، تسمية "الغيتو" على هذا الحي، ثمّ يحتجّ على سوء المعاملة التي يتعرضون لها والتي تُذكّره بمعاملة الألمان لهم خلال الحرب العالمية الثانية: "ولقد وضعناهم خلف السّياج وأحكمنا الحصار به حتى لم يعد من الممكن لأحد منهم أن يخرج أو يدخل إلا بإذن الحاكم العسكري كما كان حال الغيتو اليهودي" (في أوروبا).
كان "الغيتو" ملاصقاً للحيّ الذي أُطلق عليه إسم "الحيّ الشمالي ب" ويتضمّن منازل أهل المدينة التي استولى عليها المتصهينون من اليمن أو أعطيت لهم من قبل سلطات المستعمرة الجديدة. كانت حال المنازل في هذا الحيّ تعيسة وأطلقَ عليها ساكنوها تسمية "مخيم لاجئين"، فسكَن المستعمِر المتصهين وأهل المدينة في نفس الربع المجزّأ الى "غيتو" مُسيَّج حوصر فيه أهل المدينة، وبمحاذاته "مخيم اللاجئين" إستوطنه المستعمرون اليهود القادمون من اليمن10.
يمكن أيضاً الاستنتاج بتحفّظ، بحسب كُتب المؤرخين الصهاينة، أن "المختار" الذي نصّبَه الإستعمار على "الغيتو" ليمثل أهل المدينة كان "طه خطيب" والذي "خَطبَ بالجموع في المجدل مهنئاً إياهم بعيد استقلال إسرائيل الثاني."
خلق الواقع الجديد بين أهل مجدل غزة وبين المتصهينين المحتلين علاقة عدائية وَلّدَت في نفوس أهل المدينة المهزومين ما لا يمكن وصفه من أسى. فها هم المحتلون يحلّون مكانهم، في منازلهم، وينبشون المنازل المهجورة ويسرقون ما تركه أهل المدينة من نقود وذهب وملابس وأغراض منزلية وأثاث ومفارش… وكلّ شيء. وكانت امرأة المتصهين تتباهى في لبسها واستعمالها لملابس المهجّرين أو المحاصرين. أمّا زوجها، فلم يكتفِ بذلك، بل طافَ وجالَ على كل قرى القضاء المدمّرة والمهجّرة لينبشها ويحفر ساحات البيوت لعلّه يجد كنوزاً هناك. تكتمل الجريمة ويتعرّى المتصهين من "اليهود" المخطوفين من "وطنهم العربي" حين يصف "مأساته". فهو يكرّر كيف كان وكلاء ما يسمى الوكالة الصهيونية11 الذين قاموا بنقلهم من اليمن الى فلسطين يعمدون في كل مناسبة وبشتّى الحيل إلى سرقة أموالهم وحتّى كتبهم المقدسة. (يذكرون أيضاً حوادث قليلة قالوا فيها أن قطّاع طرق من عرب اليمن قاموا بسلبِهم وربما يكونون من المسلمين).
يصف هؤلاء "رحلتهم" من قراهم في اليمن حتى وصولهم إلى مجدل غزة وتفاصيل استيطان منازل أهل المجدل، فينزلون في مقبرة المدينة بالشمال الغربي - والمقبرة ما زالت قائمة - ليستلم كل واحد منهم منزل، منها منازل يملكها فلسطينيون ممّن لم يغادروا المجدل في حينها، فدخلوها عنوة ووضع المستعمر صاحبها في "الغيتو" خلف السياج.
كان أهل المدينة الذين لجأوا أو هُجِّروا إلى غزة يتسللون ليلاً ونهاراً إلى منازلهم لجمع أغراضهم وأموالهم أو للقيام بعمليات فدائية. أفلح البعض باستعادة ما يمكن من ممتلكات مثل النقود وأدوات منزلية وما شابه وتمكّن آخرون من قتل بعض المستوطنين أيضاً.
5 عبد الرحمن أحمد حسين، قصة مدينة المجدل وعسقلان، 2008، إصدار الدراسات الفلسطينية، بيروت - رام الله. مؤرخ صهيوني، أرشيف دولة إسرائيل، ومصادر أخرى.
6 شريف كناعنه ص. 22-64
7 داني بار معوز وبراخا طال، من غربة اليمن الى مجدل جاد 2023 (بالعبرية)
8 أرشيف "الدّولة" متاح على الإنترنت ويتضمّن معلومات ومستندات عديدة عن المجدل. على سبيل المثال جلسات وقرارات بخصوص ترحيل أهل مجدل غزة، ومشغل/مصنع النسيج الذي أسّسه الصهاينة بعد احتلال مجدل غزة، بالإضافة إلى أسماء من هُجّروا في خمسينيات القرن الماضي إلى غزة. بما أن النص لا يدّعى أنه نصّ أكاديمي وكل الملفات ترقيمها واسماؤها عبريّة، ونظراً لصعوبة ترجمتها، لم أقم بإضافة الإسناد إلى هذا الارشيف.
9 جاد ماخنيس، مستشار دافيد بن غوريون، الذي أوصى وتبنّى بن غوريون وصيّته باتّخاذ إجراءات عنيفة ووحشية وقوية “…فان عرفنا من هو العربي الذي أصابنا أو هاجمنا علينا ضربه بلا رحمة بما فيه الأطفال والنساء (من عائلته أو محيطه) وإلا لن يكون ردّنا ذو فائدة”. - من كتاب Dear homeland: Censored letters from the 1948 war” - Shy Hazkani
10 المصدر السابق ص. 52
11 هم طبعاً يهود معظمهم من أصول شرق أوروبية يطلقون على أنفسهم اسم "الاشكناز" والإسم الصحيح هو "اوستيودِن" نسبة لبلدانهم الواقعة في شرق أوروبا. وهذا نعت سلبي استبدلوه بنعت إيجابي هو “الاشكناز" أي الألمان
								في مقبرة المدينة
في 1949، بدأ المستعمر بإنشاء حيّ شمال مدينة المجدل بالشراكة مع الوكالة الصهيونية في جنوب أفريقيا وأطلق عليه اسم "افرودار" إختصاراً لتسمية جنوب افريقيا بالعبرية. بقي أهل المدينة قابعين في الغيتو حتى 1950-1952 حين قرّر المستعمِر طردهم والإلقاء بهم عبر "الحدود" الجديدة أي غزة، فقام بنقلهم بواسطة سيارات شحن تابعة لجيش الصهاينة وأخرى للأمم المتحدة (هل أجريت أبحاث حول مشاركة الأمم المتحدة في طرد أهل فلسطين بعد 1948 وعلاقتها باتفاقيات رودوس؟!).
								طرد أهل المجدل نهائياً سنة 1952
ترك أهل المدينة منازلهم وتوجّهوا إلى غزة، بينما اتجهت عائلات قليلة إلى الداخل الفلسطيني وخاصة اللّد والرملة. بقيت عائلتان في المجدل، وتمّت الموافقة على بقائها في المدينة. إنهما العائلتان اللتان ذكرهما الرجلان الثملان في المقهى. أما مسألة قبول المستعمِر ببقاء هاتين العائلتين فهي لغز يمكن كشفه، لكنّي لم أفلح بعد في إيجاد المستند الخاص بها والذي قد يحسم الجدل. ففي أحد كُتب الصهاينة وَرَدَ أن إحدى العائلات التي بقيت في المجدل ذهبت في زيارة إلى غزة بواسطة تصريح من الحاكم العسكري فما كان من أهل المجدل إلا أن اعتدوا على أفراد العائلة واتهموهم بالعمالة للمستعمر. فكانت هذه حُجّة العائلة بعدم الذهاب إلى غزة أو الخروج من مدينة المجدل المستعمَرة.
العزيز يَحْيَى
عموماً، هل عاد أحدٌ من أهلِك لأخذ أغراض أو أموال أو "كنوز" كانوا قد تركوها خلفهم؟ أو هل تعرف عن شخصٍ قام بذلك؟ وإن سمعت ذلك فماذا كان رد فعلك ؟ (واعذرني على هذا السؤال النمطي السخيف)
سألت الرجلين الثملين عن إسم العائلتين اللتين قرّرَتا البقاء في المجدل وإذا ما زالتا تسكنان فيها، فأجاباني بأنهما لا يعرفان إسميهما لكن يعرفان بأنهما ما تزالان تسكنان المدينة. ثمّ أشارا باتجاه المنزلين حيث ما زالت تسكن العائلتان، فتوجّهت إلى هناك وبدأت البحث. كان أحد المنازل في الشمال الغربي والثاني في الجنوب. قررت السير إلى شمال غرب المدينة حيث ما زالت منازل أهل المدينة قائمة. أتقدّم نحو منزل أمامَه ساحة كبيرة حُوِّلَ جزء منها إلى موقف عموميّ للسيّارات، وهذه ظاهرة ملفتة لدى المستعمِر، ففي كثير من الأحيان، يدخل المستعمِر المنازل أو المقابر والمعابد أو حّتى مدينة كاملة بأسواقها ومرافقها ويسوّيها بالأرض ثمّ يحوّلها إلى موقف عمومي للسيارات، وهذا ما حصل في حيفا والطنطورة.
وصلتُ إلى مكان ضريح ومقام الشيخ الأنصاري. في الجهة المقابلة يقعُ المنزل الذي كنت أبحث عنه. يبدو مأهولاً إلا أن أبوابه موصدة. أتنقل بين جهات المنزل وأدور حوله علّني أصادف أحد قاطنيه أو ربماً فرداً من العائلة التي لم تغادر المدينة. عشر دقائق مرّت ولا أثر لأحد. أغادر المكان وأعبُرُ الشارع الرئيسي الذي يربط المجدل بقرية حمامه إلى الشرق. يقع هناك منزل حالته مشابهة للمنزل الأول ولكنّي أَعدل عن التقدّم باتجاهه. فلا حركة هنا أيضاً. فجأة أستجمع ما أملِك من شجاعة فأتقدّم وأنادي بصوتٍ عالٍ علّ أحد في الداخل يسمعني.. لا جواب.
في كتاب المؤرخ الصهيوني نفسه صورة قديمة لمنزل يُطلق عليه اسم "منزل مانيس". أستدير وأتابع سيري إلى الجهة المقابلة فأصل إلى ورشة نجارة. صاحب الورشة في العقد السابع من عمره. أعرِّف عن نفسي وغايتي، فيتحوّل فجأة من شخص يظهِر ثقة بالنفس وبمهارته إلى شخص تنتابه حالة من التوتّر والحياء. لم يعترف إذا كان يعرف شيئاً عن سكّان المنزل ولكنه قال أن العرب كانوا هنا حتى الخمسينيات: "جميعنا احتلّينا وسكنّا منازلهم ومتاجرهم وبقيَ منهُم شخص واحد". ينظر اليّ بتمعن منتظراً منّي ردّة فعل على ما أدلى به من معلومات. أجيبه بأنّي أعرفُ القصّة الكاملة ثمّ أسأله عن تاريخ قدومه إلى المجدل (وألفظ الإسم العربي وليس الإسم الصهيوني "مجدال"). يخفض عينيه أرضاً ويعود لمزاولة عمله. أسأله عن بلده الأصلي ولكنّي لا أستطيع الآن أن أتذكر جوابه. هل كان المغرب أو رومانيا؟ ملامحه لم توحِ لي ببلده الأصلي. جلّ ما أتذكره هو حيائه وصعوبة بَوحِه بما يعرف.
حين وجدت السبب المُقنِع لكتابة هذا النص، بدأت بقراءة مجددة لكلّ ما قرأته سابقا عن مجدل غزة فوجدتُ أن شخصاً من آل شاتيلا كان يسكن هنا يوماً وكان يملك ورشة نجارة اسمها "منجرة شاتيلا"… هل هذا هوسبب حياء الرجل؟ أعرف منهم من أصابهم الحياء وعاشوا مفتقرين للطمأنينة لأنهم يعرفون تماماً مصدر رزقهم ومأكلهم وما يشترونه ويبيعونه ويصدّرونه.
أنظرُ إلى النجّار وأسمع صوتَ منشارِه يقطع أوصال الأخشاب ندماً على أشياء كثيرة أو ربما خجلاً أو امتعاضاً من أمور كثيرة لا يعلم كيف يتعامل معها.
أُكمِل بحثي فيتبّين لي أن العائلة الثانية التي آثرت البقاء في المدينة هي عائلة ابراهيم زخاريا مالك الاكزخانة أو ثاني صيدليات المدينة. ولكن لا أثر للعائلة في أي مكان. أواصل القراءة، اتفحّص تقريراً في إحدى الصحف الإسرائيلية من سنة 1986 تحت عنوان "قصص من اشكلون". أما أهم وأبرز القصص في هذه المستعمرة فهي قصّة عائلة مُخلص خطيب. ويعرض التقرير صورة كبيرة لخطيب مع زوجته وبناته وأولاده على شرفة منزلهم، أو حسب تعبير الكاتب في "فيلا" تقعُ في حَيّ "افرودار" وهو أول حيّ في مستعمرة اشكلون المبنية على أراضي مدينة مجدل غزة. لا أعلم لماذا قرّرَت هذه العائلة البقاء . وإن توقّفت عن البحث بعد فترة فسوف يزعِجُني جداً أن أجد شيئاً ما في تقرير هذا الصحفي الإسرائيلي خاصة وأن صديقي الذي عَمِلَت لديه ابنتهم أطالَ في مدح نزاهتها وحرفيتها. أمّا الصحفي الإسرائيلي الذي كتب ونشر قصة مُخلص وزوجته فيكتب: "يقول الخطيب أنّه بقي هنا ولم يستسلم وأصرّ على إرجاع 15 دونم أرض من أملاك جدّه ووافقت السّلطات في المحصلة على تسجيل 11 دونماً منها". يضيف الصحفي: "ربما ساعدت علاقة جدّ مُخلص مع اليهود على إعادة تسجيل الدونمات الإحدى عشر. إلا أن هذه الفرضية تبقى من دون إثبات"12. عرِفتُ أيضاً أن النائب الذي عَمِلَت لديه إبنة مُخلص كان على علاقة جيدة يطغى عليها الاحترام مع أحد الوزراء في دولة إسرائيل المختصين بشؤون الأراضي. وتمكّن النائب في نهاية الألفية من إرجاع 17 دونماً إلى هذه العائلة.
لقد سكنت عائلة الخطيب بربع أبو شرخ قبل سقوط المجدل. أما السيّد إبراهيم زخاريا فلم أجد عنه في السجلات التي استطعت الاطلاع عليها سوى عبارة "عربي مسيحي" وهي لازمة يستعملها المستعمِر للإشارة إلى عدّة دلالات غير مرتبطة بالواقع أو كوسيلة لهندسة واقع النتيجة المرجوة منه أن يكون الولاء لدى العرب الفلسطينيين طائفياً وليس قومياً انثروبولوجياً أو سياسياً. قبل الإنتهاء من كتابة هذا النص عَلِمتُ أنه لم يبقَ أحد من هذه العائلة في مجدل-غزة وأن ابنتان منها تزوجتا وانتقلتا منها. إحداهن سكنت في الرملة وتوفيت هناك، أمّا الثانية فتزوّجت في الناصرة ولم أستطع الحصول على معلومات أخرى عن هذه العائلة.
12 مجلة "العنوان الرئيسي"، تشرين الثاني 1986 (بالعبريّة)
السيد يَحْيَى
بالمناسبة… هل أخبرك والداك عن ملاعب طفولتهما؟ فلقد كان هناك وادٍ دمرَهُ المستعمِر في 1948 وحتى المؤرخ المتصهين والمستعمر يتغنّيان بجماله وفوائده ولكن لا يذكران إسمه . الوادي الذي أتحدّث عنه يحدّ المدينة غرباً. بحثت في أطلس فلسطين لشيخ فلسطين الأستاذ سلمان أبو ستة ولم أجد أي أثر له قبل أن يدمّره المستعمر. هل لك أن تسألهما في حال ما زالا على قيد الحياة؟ بالمناسبة… هل أنت الإبن البكر لهما؟
						مكان ضريح ومقام الشيخ الأنصاري
						منزل مانيس
						مستعمرة " افرودار" المقامه على ارض المجدل والجوره في وقت تاسيسها
						صورة العائلة التي بقيت في المجدل ولا تزال تسكن فيها أو في ما أصبح لاحقاَ مستعمرة اشكلون منذ سنة 1986. عائلة الخطيب: الأب مُخلص والأم نادرة والبنت ريم والأبن أمير
						منزل شلومو تنعمي (؟) هذا هو الإسم الذي أطلق عليه
لا أثر حتى الآن للعائلتين. أقرِّرُ أن أعود إلى مكان اللافتة المثبّتة في وسط الشارع الرئيسي. إنّها لافتة جديدة نسبياً فأنا لم أرَها خلال آخر زيارة لي إلى المدينة قبل خمس سنوات. أتمعّن فيها وأبتسم لأن الصهيوني المحتل اعترفَ أخيراً بأن المدينة هي مدينة صناعة النسيج إذ أن تاريخ صناعة النسيج فيها يعود إلى بداية القرن السابع عشر، أي قبل 300 عام على مجيء المستعمرين الألمان، ثم أعداد قليلة من الصهاينة من بعدهم، ثم المستعمِر الوحش البريطاني والأب الشرعي للاستعمار الصهيوني. أكتشِفُ لاحقاً أن المدينة كانت فعلاً من أشهر مدن صناعة النسيج، ليس فقط في فلسطين، بل في بلاد الشام قاطبة ولم تضاهيها إلا الشام. وبحسب عبد الرحيم أحمد حسين، كان عدد النسّاجين في مجدل غزة 1000 نسّاج من مجموع 1766 نسّاج في عموم فلسطين13. كان معظم النسّاجين من أهل المجدل، لكن نساجين كُثُر قدموا من مختلف جهات الوطن العربي واستوطنوا في المجدل وأصبحوا من أهلها. يقول الحلبي أن أهل المجدل استقبلوا 12 نسّاجاً من حلب14. أمّا جوستاف دالامان (الانجيلي الألماني وربما الصهيوني) فيأتي على ذكرها عندما زارها في بداية القرن العشرين فيكتب أنه في سنة 1909 كانت المجدل تحوي وحدها 500 نول للقطن، مع الإشارة إلى أن المجدل تغزل الحرير والصوف15. في المقابل، كان في لبنان وحلب وحمص وحماه ما مجموعه 2500 نول. أمّا في غزة فكان هنالك 50 نول فقط لا غير. ويُطلِق دالامان على مجدل غزة إسم "مدينة النسّاجين" ويقول أن ما مِن أحدٍ نسَجَ عباءات الفلاحين ذات الجودة العالية (التي تكون سادتها من القطن ولحمتها من الصوف) إلّا النسّاجين المجدلانيين. يختلف كُتّاب ومؤرخو مدينة مجدل غزة في تحديد العدد الأقصى من الأنوال التي وصلت إلى أهل المدينة ونسّاجيها، فمنهم من يذكُر أن العدد انخفض إلى 200 خلال الحرب العالمية الثانية ومن ثمّ ارتفع بعدها ليصل إلى 800. ويذكر آخرون أن الارتفاع دام حتى 1948 ووصل قبل احتلال المدينة إلى 1000 نول. مصدر آخر يشير أن العدد وصل إلى 3000 نول. في المقابل لا أحد يذكر كم كان عدد النسّاجين مع الازدياد الهائل في الأنوال. على العموم، لا يختلف اثنان على أن عمود اقتصاد مجدل غزة هو النسيج. إلا أنّ أغرب ما قرأته هو ما كتبه المؤرخ الصهيوني الذي أرّخ تاريخ استعمار المتصهينين من اليمن واحتلالهم لمدينة المجدل ومنازلها، إذ يقول: أُطلِق على المجدل إسم "مانشستر فلسطينية" (كانت مدينة مانشستر مدينة النسّاجين في بريطانيا). والمقصود هو "مانشستر فلسطين" ولكنّ الصهيوني يسمّي فلسطين "فلسطينية" بقصد التحقير والإذلال، بما معناه أنها تافهة وصغيرة. مباشرة بعد سقوط المجدل، كان المستعمِر يخطّط لهذه المستعمرة أن تصبح بلد صناعة النسيج في الدولة/المستعمِرة وأن يتعلّم المستعمِرون من أهل المجدل الغزل والحياكة وصناعة النسيج. إلّا أنّهم فشلوا فشلاً ذريعاً. في هذا السياق، استقدَمَ المستعمِر مهندساً بريطانياً مع نول لبناء مشغل نسيج ضخم. استمروا في المحاولة حتى عام 1956. ولكَي أكون أكثر دقّة، أحدَث مستندٍ عن هذه المحاولة موجود في "أرشيف دولة إسرائيل" ويعود إلى عام 1956. المفاجأة الأكبر وجدتها في مقابلة مع السيد محمد عبد الرحمن محمد الحلبي، وهو من سكان غزة، الذي يذكر أن والده كان مدير مصنع أو مشغل النسيج هذا وقد هاجر والده مع العائلة إلى غزة في 1951-1952. أمّا أبو جميل زكي أبو مرسه، وهو من مهجَّري المجدل وسكّان اللّد حالياً، فيضيف أنّ السيّدان ياسين حناوي ومحيي داهود (أبو حسن) كانا آخر من تركا العمل في مشغل النسيج الصهيوني الذي يبدو أنه كان له علاقة متينة مع متاجر ماركس أند سبنسر البريطانية.
يبدو أن فشل مشروع تحويل مستعمرة اشكلون (والتي يحلو للفلسطينيين تسميتها عسقلان والأمر فيه التباس) كان السبب في ترحيل 2500 من أهل المجدل الذين بقوا في المدينة. وكانت الخطة تقضي بإبقائهم قريبين من المجدل، ولكن خارجها، في مكان يسمّى الجواريش. ولكن أهل المجدل رفضوا الفكرة وتمّ ترحيلهم جميعاً16 ما عدا العائلتين اللتين أشرنا إليهما.
كانت مشاغل النسيج منتشرة على طول الشارع الرئيسي الذي يقطع المدينة من شمالها إلى جنوبها. أتجوّل في الشارع الرئيسي وأنا أنظر داخل كل حانوت، أدخل وأسأل الناس ما إذا كان هذا المكان مشغلاً أو أنَّ نولاً أو قِطَعاً منهُ لا تزال محفوظة هنا. لا أحد يعلَم… أصل إلى باب قديم موصد وإلى جانبه على الحائط لافتة كتب عليها "مكان اثري - كانَ مشغل نسيج - ممنوع الاقتراب أو الدخول". أُفكّر أين يمكن أن تتواجد الأنوال؟ فلا بد أنها هنا أو أنهم قاموا ببيعها بعد أن حوّلوها إلى خرد حديد أو ربما أعادوا استخدامها كما فعلوا بحديد سكّة الحجاز وصنعوا منها خط بارليف الذي سقط في حرب اكتوبر عام 1973.
أثناء تجوالي قرّرت الإتصال بالأستاذ سلمان أبو ستة لعلّه يعرف شيئاً. فكان جوابه أن أهل المجدل من اللاجئين أخذوا معهم أنوالهم واشتغلوا بها في مخيم خان يونس حيث كانوا ينصبونها على قارعة الطريق الرئيسي للمخيّم ويباشرون بنسج الأقمشة. تعجّبت من الأمر بعد استلامي الصّورة الفوتوغرافية التي التقطها لهم من المخيم لأنها كانت مطابقة تماماً لوصف أنوال ومشاغل النسيج التي انتشرت سابقاً على طول قارعة الطريق الرئيسي للمجدل من شماله حتّى قِبلته. أفكّر وأغرق في التفكير… كيف وصلت هذه الانوال إلى خان يونس؟ سأسأل السيد يَحْيَى لاحقاً فهو من مواليد خان يونس.
كان أهل المجدل يحملون بضاعتهم من النسيج ويجولون على قرى القضاء حتى ديران (رحوفوت) المستعمَرة ليبيعوا النسيج كما يكتُب البعض في كُتب التاريخ وعلى المواقع الالكترونية. لم يُكتَب الكثير عن صناعة النسيج في مجدل غزة، ولكن المؤكد من الكتب حول هذه الصناعة في المدينة هو أن مشغل النسيج الأساسي هو المشغل المنزلي أي أنَّ عائلات كثيرة كانت تملك نولاً واحداً أو أكثر وتتعاون في صناعة المنتوجات. أمّا عائلة شاتيلا فكانت تصنع الأنوال وتهتم بصيانتها.
13 قصة مدينة: مجدل عسقلان، عبد الرحيم أحمد حسين
14 مقابلة مع السيد محمد عبد الرحمن محمد الحلبي، من تسجيلات المتحف الفلسطيني بيرزيت.
15 كوستاف دالامان، العادات والتقاليد في فلسطين المجلّد الخامس، ترجمة عربية من الألمانية، إصدار وإعداد المركز العربي للأبحاث، الدوحة، قطر.
16 مقابلة مع السيد أبو جميل يوم 5-8-2024
						أحضَرَ المستعمِر مهندسا بريطانياً مع نول ضخم لتأسيس صناعة النسيج
						مشاغل النسيج (المصدر: مكتبة الكونغرس)
						مشاغل النسيج (المصدر: مكتبة الكونغرس)
						المجدل - الشارع الرئيسي حيث كانت مشاغل النسيج تتواجد يمينه ويساره
						مشغل نسيج ولافتة بالعبرية على أحد الجدران
تستدعي الكتابة عن النسيج التطرّق إلى موضوعين مهميّن. الأوّل، عن آخر مجدلاني بقي في المدينة (غير عائلتي خطيب وزكريا). المصادر بغالبيتها، إن لم تكن جميعها، تتحدث عن آب - تشرين الثاني 1950 كتاريخ مرحلة التهجير النهائية. وجدتُ في أحد الملفّات أن آخر مجدلاني أُبعِد إلى غزة في سنة 1952 . وهذا أيضاً ما أكّده لي السيد زكي أبو مرسه الذي، من ضمن الأسئلة التي سألته إياها، سؤال عن طه الخطيب. فقد ذكرت له أنه كان أحد الخُطباء في إحتفال المستعمَرة بعيد استقلالها في 1950، ومصدر المعلومة صهيوني. إلّا أنّ السيّد زكي أبو مرسه، بحكم المصاهرة بينه وبين السيد طه، أصرّ أن هذا الإدّعاء غير صحيح، وأن السيد خطيب كان يعمل في البلدية بعد الإحتلال عندما كانت تحت حكم الصهاينة، وأنّه عمل أيضاً لصالح وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (والتي اشتركت مع جيش الاحتلال والمستعمر في عملية إخراج أهل المجدل من مدينتهم ووطنهم بين عامي 1950 و 1952). أمّا أنا، فما زلتُ أبحثُ عن ذلك الشخص الذي خطبَ محتفلاً بيوم "عيد استقلال إسرائيل".
أمُرّ بالشارع حيث من المفترَض أنَّ مشاغل النسيج ترامت على جانبيه. لا شيء… جميع المشاغل تحوّلت إلى متاجر ليس لها أي صلة بالنسيج. أنظُرُ في فُتحات أبواب المنازل المهجورة بحثاً عن ما تبقّى من الأنوال..لا شيء.
العزيز السيد يَحْيَى
زياراتي المتعددة لمدينة مجدل غزة تخلّلتها زيارات لقرى "حمامه" و"كوكبه" و"الخصاص" و"بير أبو سنيد" و"الدراس" إضافة إلى المقامات مثل "مقام الشيخ عوض" و"مقام الشيخ محمد" وكذلك الساحل، أي الرمل الشمالي والرمل القبلي. إلا أنّ مكاناً واحداً لم أزره من قبل وهو مسجد ومقام اسمه "مشهد الحسين". لم أعثر عليه سابقاً ولم أعطه الأولوية على الرغم من الفضول الاستثنائي الذي كان من المفترض أن يدفعني لاسكتشافه، فمسقط رأسي هو أيضاً "مشهد" في ضواحي الناصرة. وكنت كلّما حاولت تتبع الخارطة للوصول إلى "مشهد الحسين" اصطدمت بمنشأة ضخمة هي مستشفى "برزيلاي" فاعتقدت أن "المشهد" قد مُسح عن الأرض أو أن المستشفى أقيمَت على أنقاضه. وفي حال كان "المشهد" خارج أسوار هذه المنشأة فعليّ أن أحاول الالتفاف حولها، ولمّا فعلت ذلك لم أجد سوى مزيد من الأسوار المحيطة بالمنشأة.
								المقبرة
أما في هذه الزيارة، فقد اطّلعت على الخريطة مرّة أخرى، ولاحظت وصفاً جديداً وإضافات تشير إلى أن "مشهد الحسين" يقع داخل أسوار المستشفى. أعاود السير من المقبرة باتجاه المستشفى. يرتعش بدني من منظر المقبرة الصامتة والمهملة، وحيدة… نبشها المستعمرون وقاموا بتحطيم شواهدها وحجارتها. أمّا القبور المنخفضة، فبالكاد هناك علامات تدلّ عليها. هي المرّة الخامسة التي أتجوّل فيها بين هذه القبور المترامية في المساحة الشاسعة. عندما أحضرت الوكالة الصهيونية المستوطِنين لاحتلال منازل أهل المدينة، أنزلوهم من الشاحنات في هذا المكان. أقف الآن بين القبور لعلّني أعثر على أثر أو اسم أو أي شيء مكتوب عليها. لم تعد الكتابة واضحة ومُعظم الأحرف متناثرة هنا وهناك. أعبُر المقبرة من الشرق باتجاه الغرب وأقِفُ بجانب قبر شاهده يصل الى كتفي. أتأمّل مرّة أخرى شجرة الصبار الوحيد في المقبرة، وإذا بشخص ربما يكون من أبناء أولئك المستوطنين أو أحفادهم يقطف ثمارها تماماً كما يقطف الفلسطيني ثمرة الصبّار… المقبرة توحي أن المدينة كانت مزدهرة تنبض بالحياة، مدينة لم أسمع عنها إلا في أواخر تسعينيات القرن الماضي. كان وقع الاكتشاف مدوّياً بالنسبة لي: مدينة بهذا الثراء تصنع أجود ما صُنع من نسيج، "صنع في فلسطين" أو "صناعة وطنية"، قبل أن يتحوّل بعض من بقي في فلسطين إلى "عرب إسرائيل" مبهورين بكل ما هو من إنتاج المستعمِر، لغةً وهنداماً وتصرّفات، فيقولون أن اليهود كانوا يبرعون في النسيج والحياكة في أوروبا. وأنا كذلك، كنت على "قناعة تامة" بأن النسيج في بلادي قَدِمَ معهم. أذكر عندما قرأت ملفات المخابرات الإسرائيلية ودوائر "دولتهم" أنني شعرت بالخجل والغضب بسبب جهلي، وأنني شربت الكثير من الماء حتّى أخفّف من وقع الغضب والعنف الذي تراكَم في داخلي بسبب أن أحداً ما استخفّ بي ولأن أهلاً لي كانوا كالببغاء يردّدون ما لقّنهم إياه المستعمِر الصهيوني عن نسيجه وحياكته.
كان وصفُ "الغيتو" (وهكذا كان اسمه منذ البداية) في مستندات المستعمِر الصهيوني مستفزّاً ومثيراً للغضب. ولم يكن أحد يأبه لسكّان الغيتو. ثم اعترض أحد المستعمِرين واسمه "ماخنيس" وقام بتوبيخ المستعمِرين مشبّهاً حال السّكان في الغيتو بحال اليهود في زمن النازية.
بحسب خرائط ما قبل سقوط مجدل غزة، فإنني أمشي الآن على أرض الجورة، ويمكن تتبع المسار أيضاً في "أطلس فلسطين" الذي أعدّه الأستاذ سلمان أبو ستة. أمّا اليوم، فهذه الأرض تحوّلت إلى أحياء تابعة لمستعمرة / مدينة اشكلون.
أصِلُ إلى مدخل المستشفى. يسألني الحارس بالعِبرية عن وجهتي، أجيبه: "مشهد الحسين". يطلبُ منّي فتحَ حقيبتي فأفتحها. ثم يسألني إن كان فيها أدوات حادة أو سكّين، لا أرتبك وأقول "لا". تملّكني شعور بالسعادة وتبدّدَ توتّري عندما قال لي أخيراً "تفضّل" واشار بيدِهِ إلى الغرب ثم النزول جنوباً. أتجه نحو هدفي حسب تعليماته، لا أرى أحداً. أنا خلف المستشفى بين السور المحيط به والمخازن. أمشي حوالي خمسمائة متر جنوباً. لا لافتات تشير إلى "مشهد الحسين". الطريق متعرّجة غرباً ومقطوعة جنوباً. يقترب عامل صيانة منّي. أتفحّص دائماً ملامح العمال والعاملين بوظائف صعبة حتى أختار اللغة التي سأخاطبهم بها، العربيّة أوالعبريّة. على بعد خطوتين منه، تيقّنت أنه من أبناء الصهاينة. أسأله بالعبريّة عن "مشهد الحسين" مشدّدا على اللهجة العربية الفلسطينية بكل ضوابطها ومخارج حروفها : "مشهد الحسين". يجيب بالعبريّة أن عليَّ التقدّم عشرات الأمتار حتى أصِل إلى تلّة المقام.
على بُعد بضعة أمتار، أرى تلّة محاطة بسياجٍ أبيض وتشبه مقابر جنود الصهاينة الذين قتلوا في حروبهم وليس مقام أولياء من زمن الفاطميين. كنت أعلَم أن كتائب المستعمرين دمّرته عن بكرة أبيه. هذا المسجد كان آية في الجمال، كثرت حوله القصص والروايات والأساطير الجميلة والممتعة. هو معقل إيمان الناس الذين ضاقت بهم الحياة وأتعبَتهم وُجهتهم وأحياناً خانتهم فكانوا يجيئون إلى هنا ليحتفلوا بمهرجان عاشوراء ومهرجان "الموسم" فيمارسون طقوس إيمانهم ويطلقون دعواتهم ويمكثون ليوم أو يومين في المكان.
يُجمِع المؤرخون، كما مستندات المستعمِر بحسب الأستاذ سلمان أبو ستة، أن من أعطى أوامر الهدم هو من كان يوماً رئيس جيشهم وضابطهم الأول "موشيه دايان". في أماكن معيّنة، ومنها تطبيق هاتف المشائين الصهيوني الذي استعين به أحياناً للتجوّل في الطبيعة، كُتِبَ التّالي: "أعيدَ بناءه". أضحك ضحكة استهزاء على هذه البشرى التي تأخذ من الحقيقة عدواً. يقُصّ علينا المستعمِر أن "إعادة" إعمار المزار جاءت لإتاحة الفرصة لزوّار وأتباع الحسين الشيعة الإسماعيليين القادمين من الباكستان والهند. وتقول الرواية أنه تمّ إحضار رأس الحسين إلى هنا ليُدفَن في هذا المكان. وعندما جاء الفاطميون وحكموا هذه البلاد، أخرجوا رأسه ودفنوه في القاهرة. إلا أن ذلك لم يثنِ أهل جورة عسقلان ومجدل غزة وباقي القضاء من إقامة الإحتفالات والشعائر وخاصة الدراويش والصوفيين منهم في يوم عاشوراء تخليداً وتمجيداً لحفيد النبي محمد. أمّا عن معركة كربلاء وكيف انتقل رأس الحسين إلى قرية جورة عسقلان قضاء مجدل غزة ومن ثم نقله إلى القاهرة فهذا ما لا يستطيع هذا النص احتواءه.
أستاذ يَحْيَى
						مشهد الحسين قبل ان يهدم على يد المستعمر - 21 نيسان 1943 (المصدر: مكتبة الكونغرس)
						مشهد الحسين اليوم
						مسيرة تنطلق من أحياء المجدل باتجاه مشهد الحسين - 21 نيسان 1943 (المصدر: مكتبة الكونغرس)
						المسيرة
						المسيرة
أتركُ "مشهَد الحُسين"، انحدر إلى "واد النمل" وأتابع بحثي عن منازل جورة عسقلان التي لم أجدها بعد.
لم أجد في المراجع والكتب إلّا ما ندرَ عن جورة عسقلان. أما الكتاب الذي ذكر البلدة واسترسل في الحديث عنها فهو كتاب عارف العارف "الموجز في تاريخ عسقلان" الصادر سنة 1943. أما كتاب "قصة مدينة المجدل وعسقلان" لعبد الرحمن أحمد حسين (منشورات المؤسسة الفلسطينية للدراسات)، فهو نسخة طبق الأصل عن كتاب الأستاذ عارف العارف، ما دفعني للتساؤل عن سبب نشره بدل إعادة نشر كتاب الاستاذ عارف العارف ولكن "لله في خلقه شؤون".
كنت في حيرة من أمري عندما قرأت لأول مرة في ملفات الصهاينة أن المجدل اسمها "مجدل غزة"، على عكس ما سمعت وقرأت من تبنّي لتسمية "مجدل عسقلان" من قبَل "المثقف الفلسطيني" الذي يتفنّن كشبه المثقّف بإنتاجاته والمصطلحات التي يستخدمها مثل "السردية" و"الرواية" و"الذاكرة" و"أدب التذكّر" في حين أنه من أكبر الناسخين، صاحب عقلية عرب-إسرائيليه ومنتحل صفة "الفلسطيني".
في كتاب عارف العارف المجدل اسمها " مجدل غزة"، أمّا قرية الجورة فتسمّى "جورة عسقلان". و"عسقلان" هي آثار لمدينة أموية عربية وحضارات وثقافات مختلفة من قبلها إلّا العبرية. وتشير الموسوعة البريطانية أن "مجدل غزة" سُمّيَت "مجدل عسقلان" بعد "الاحتلال الإسرائيلي" الذي أعطاها هذا الإسم بعد أن أطلق عليها أولاً إسم "مجدل-جاد" ناسباً إياها إلى بلدةٍ في جبال نابلس ذُكرَت في التوراة، إلا أن الصهاينة ظلّوا يستخدمون اسم "مجدل غزة" حتى سنة 1952 ثمّ "مجدل اشكلون" ثم "مجدل". أمّا المثقفون، وفي طليعتهم العربي-الاسرائيلي، فظلّوا يطلقون عليها الإسم الصهيوني "مجدل عسقلان" في حين ثبت الصهاينة على تسمية "ميجدال". أمّا في هذا النص، فأعتمِد الإسم العربي كما دوّنه عارف العارف، وهو الذي شغل منصب قائم مقام قضاء غزة بين سنة 1929 - 1943 وكتب عن المجدل (غزة) والجورة (عسقلان) من ضمن بلاد غزة أو "قضاء غزة".
						احتفالات مشهد الحسين ووادي النمل - 21 نيسان 1943 (المصدر: مكتبة الكونغرس)
						احتفالات مشهد الحسين ووادي النمل - 21 نيسان 1943 (المصدر: مكتبة الكونغرس)
						احتفالات مشهد الحسين ووادي النمل - 21 نيسان 1943 (المصدر: مكتبة الكونغرس)
						احتفالات مشهد الحسين ووادي النمل - 21 نيسان 1943 (المصدر: مكتبة الكونغرس)
يقع "وادي النمل" على منحدر ملاصق لـ "مشهد الحسين" وبينهما ارتباط عضوي يتم في أوَجّه خلال احتفالات "الموسم" التي كانت تقام في "جورة عسقلان "على الساحل الشمالي والقبلي يوم الثلاثاء من الأسبوع الثالث من شهر نيسان قبل عيد الفصح. الاحتفال، كما يصفه عارف العارف وبعده عبد الرحمن أحمد حسين وبنفس الكلمات والروح وبدون إسناد إلى أي مرجع من قبل الاستاذ حسين ، كان يتألف من سوق ومساحات لألعاب الأطفال في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني ينتقل المحتفلون إلى حفل ولائم على الأضرحة في مقبرة "وادي النمل" صعوداً نحو "مشهد الحسين". يتخلّل الحفل استعراض للخيّالة ورقص ديني وأناشيد دينية يغلب عليها الطابع الصوفي أو الدراويش.
إذا تابعت نزولي في المنحدر سأجد نفسي في الشارع العام وإن تجاوزته ووصلت إلى الأرض المهجورة المغطاة بالأشواك والأعشاب الضارة، فأكون قد وصلت إلى قاع "وادي النمل"، إلا أن أسوار المستشفى بارتفاعها الشاهق ستمنعني من مواصلة سَيري.
أتابع المشي في خط مستدير بمحاذاة السّور المرتفع ما يقارب كيلومترين اثنين حتى أصل البوابة التي يحرسها رجال الأمن. من غير الممكن الدخول من هنا إلا بعد فحص أمنيّ مشدّد ولكني أخرج من المكان، ولذلك لن يسألني أحد عن سبب خروجي. أغرق في أفكاري متمعّناً بهذه الحالة العبثية والمحيّرة.
أقطع الشارع الرئيسي وأصل إلى أشواك "وادي النمل". في وسطه "مخطم رجل" - سبيلٌ صغير حفرتهُ دعسات أقدام العابرين والعائدين من هنا الى شاطىء البحر.
أنظر من حولي، بالكاد أرى الأرض والتراب المتلطّية تحت الأشواك والأعشاب. أرى شواهد قبور مكسورة ومبعثرة أو ربما حجارة مربعة مهندسة. هل هذه حجارة المنازل التي سكنها أهل الجورة ؟ هل هو منزل اسماعيل هنيّة أم منزل أحمد ياسين؟ كلاهما كانا لاجئان وأهلهما هجّروا من جورة عسقلان.
كنت أتمنى أن أكون ذلك الشخص، أتفاخر في المجالس وعلى صفحات المواقع الالكترونية أو الصحف والمجلات :"كنت هناك في بلد الإثنين… لا بل رأيت حجارة منزليهما بأمّ عيني." لا لن ألتقط صوراً لهذه الحجارة وقد اصبحت أميّز بينها وأعرف مصدر كلّ واحدة منها. حجر مقبرة أو منزل أو بئر أو اسطبل أو خابية أو معصرة. أربعة عشر عاماً مرّ عليّ وأنا أتنقّل في البراري سيراً على الأقدام في كل قرى ومدن وطني المهجر، ولكنّي لن ألتقط صورة، فكلّ الحجارة حجارة وطني وكلّها دليل على وجودي وبقائي وحقّي. أراها في كل مكان في فلسطين التي يحلو ل"لمثقف" تسميتها الـ 48 .أقابل في طريقي مجموعة من أبناء المستعمِرين الشباب، نصف عراة يستمتعون بما تبقّى من عُمر الصبا. أخلاقهم تبدو حسنة، يحيدون عن الطريق الضيق ويفسحون المجال للمرور: "تفضّل" يقول أحدهم، "شكراً" أجيبه.
- "هل يوصلني هذا الدرب إلى الشاطئ؟"
- "تابع سيرَكَ مباشرةً وستصِل إلى الشاطئ"، يُجيب أحدُهم.
أتابعُ سَيري ولكنّي أحيد عن الدّرب عندما أرى بيت شَعر (خيمة) تجلس أمامه إمرأة بلباس عربي "بدويّ" وشابة ترتدي لباس هذه الأيام. يتوزّع ثلاثة أطفال حولهما.. أتقدّم، تحدّثانني بالعِبريّة، أجيبهم بالعَربيّة. تظهر علامات الذهول على وجوههن، تبتسمان ابتسامة عريضة. أمّا الاطفال فعيونهم تحدق بي كمن يحدّق بكائن غريب. تسألني المرأة عن مسقط رأسي. أجيب على سؤالها ومن ثم أستفسِر عن أصولها وما إذا كانت من جورة عسقلان. تقول أنّها من مضارب وقبائل موطنها صحراء البحر الميّت وأنها ترحل صيفاً إلى هنا برفقة زوجها وإبنها وأحفادها. أسألها عن الرجال فتُجيب بأنهم غادروا ويعودون في المساء بعد الدوام اليومي. أمّا الصبي فيرعى الماشية بالقرب منهم في مراعي الشوك والأعشاب اليابسة. لهجتها تشبه لهجة عَرَب جنوب فلسطين وصحراء البحر الميت فتلفظ القاف كالجيم المصريّة. أراقب بطرف عينِي الطفلين الجالسين في حضن أمهما الشابة، فأرى الرّيبة في عيونهما. أمّا هي، فتتمعّن فيّ النّظر، ملامح السكينة واضحة على وجهها، البؤس لا يقهرها رغم الفقر والحياة المتواضعة، حنانها وحبّها وعطفها على ولديها، كما قوّتها، هي العناصر البارزة. أتراجع خطوتين إلى الوراء حتى لا يؤلمها عنقها وهي تلتفت باتّجاهي. لا أعرف كيف طرحَت السيّدة سؤالاً عن كوني مسيحياً، ولكنّي أذكر أنّي قلت لها "وماذا يهم؟". في تلك اللحظة بدأت المرأة تتكلم معي بلهجة الشمال وأصرّت أن أحتسي "القهوة" بالألف ("أهوِة") وليس بالقاف أو بالجيم المصرية. اتّسعت عيناي وردّيت عليها بابتسامة عريضة بعد أن قلبت بلمح البصر لهجتها إلى لهجة أهل الشمال، أو ما يطلق عليه البعض القاف المسيحية على الرغم من أن أهل الشمال بجميع أطيافهم يستخدمون هذه القاف، وعلى الرغم من أنّي أستخدم القاف المُخفّفة أو قاف رجال ونساء وكبار السّن من "عائلات" الناصرة. أحتسي القهوة معهنّ.. تُحدّثني عن معارفها من أهل الشمال. قد تكون وُلدت هناك وربما احتضنتها إحدى الاديرة كطالبة في المدارس "الأهلية - التبشيرية" كما يُطلق أهلنا على المدارس الإستعمارية. أو ربما هي مسيحية… الشيء الوحيد المؤكّد أنها فلسطينية وأنَّ عودها صلب ولا بدّ أنّها تدير جميع أمور العائلة. أوَدّعها على الرغم من إلحاحها عليّ بالبقاء.
جورة عسقلان هي قرية بلغ عدد سكانها ما يقارب الـ 2400 نسمة اعتاشوا من صيد الأسماك والزراعة وبالأخص زراعة العنب. ويذكر عارف العارف عنب جورة عسقلان ويمدح به فيقول أنّه "مشهور جداً في فلسطين وكثير من الناس يؤثرونه على عنب بربره وخليل الرحمن - مساحة الأرض المزروعة 800 دونم - تتنوّع أصنافه ومن أهمّها الزرقاوي والأصفر (المراوي) والشوباني واليافاوي". ولكنّ الجورة كانت قرية صيادي أسماك بامتياز وكان عدد صياديها 285 وزوارق صيدها 60 مقارنة بـ 20 زورقاً و75 صياداً فقط في غزّة. وحدها حيفا تفوّقت عليها في هذا المجال. كانت أصناف السمك التي اصطادها وباعها أهل الجورة هي البوري والغردين وافتنيار والموسقار والسرغوس واللقز والده بان. يذكر العارف أيضاً أن أجود أنواع البصل في فلسطين كان يزرع في هذه القرية حتّى تعارف أهل فلسطين على اسمه "البصل العسقلاني" وجودته.
إلا أن ما لفت انتباهي في كل النصوص عن مدن وقرى وأهل فلسطين عدم ذِكر أهل الجورة الميسورين جداً كما وصفهم العارف وأهل مدينة مجدل غزّة الذين يشبهونهم لناحية المستوى الاجتماعي. وكدليل على ثراء أهل الجورة، شدّد العارف أن منازلهم كانت"حجرية وليست من طين".
لم أعثر على حجارة المنازل التي أشار إليها العارف ويُرجح أنّ المستعمِرين استولوا عليها وأعادوا استخدامها لبناء بيوتهم أو رصف الشوارع. ولكن السياسة المعتادة كانت تتمثل بعدم هدم المنازل الحجرية بل المحافظة عليها كما في جارة جورة عسقلان مجدل غزة، وتخصيصها لذوي الامتيازات من الاوستيودِن أي اليهود الأوروبيين الشرقيين.
بعد أن تركتُ أم جمال وكنّتها وأحفادها في مضاربهم، اتجهت غربا نحو الشاطىء. عبَرت من تحت السياج الشائك الأمني الذي يفصل بين المضارب وما كان يوماً عسقلان التي تبادل الصهاينة و"عرب إسرائيل" "المثقفين" الأدوار لابتداع قصص خيالية حول هذه الآثار.
								آثار عسقلان... استقبلتني أفعى وهربت بين الآثار
يطلق المستعمِر على آثار عسقلان إسم "الحديقة الوطنية اشكلون". تستقبلني أفعى كبيرة قرب الموقع الأثري، تهرب وتختبئ بين جدران ما تبقّى من عسقلان الأموية والفلسطينية من قبلها. أكمل طريقي بين الآثار. بجانب كل عمود أو حائط مائل أو ركام من حجارة، تجد لافتة كتب عليها ولي أمر المكان الآن وباللغة العبرية وتحتها بالإنكليزية شرحاً ما. أقرأ الوصف، يستفزني ما كُتِب. أذكر فقط لافتة واحدة تشير إلى أن أول من بدأ بالحفر هنا كانت إحدى أميرات العائلة الأوروبية الثريّة التي اتّخذت من بيروت مكان إقامة لها وزارت هذا المكان في القرن الثامن عشر، أو ربما التاسع عشر، "معزّزة مكرّمة كما يليق بها" في سياق رحلة تنقيب أثري. الإسم مدَوّن على اللافتة. لم أكتبه ولم أحفظه، لم تعد هذه الأساطير "العلميّة" تهمّني. وصلَ بي الملل من تكرار العلاقة بين الاستعمار الغربي اليهود - مسيحي صهيوني إلى حدّ لم أعد أعر هذه السيدة ونتائج حفرياتها أي اهتمام. هي تنتمي إلى قبيلة تحمل الفأس بيدها اليمنى والعهد القديم باليد الأخرى، تعبث بالتاريخ وتحافظ على صفة "العقلانية" و"العلمية" ليصبح العهد الجديد والعهد القديم أكثر الكتب "علميّة" واعتماداً وأكثرها صدقاً ومصداقية بين كتب "التاريخ".
								رواد الشاطئ في الجورة
وصلت إلى شاطئ الجورة القبلي ووجهتي الشاطئ الشمالي. إلّا أنني أشعر بحرٍّ شديد، فهل أتابع سيري ومتعة التجوال في وطني؟ هل أتابع سيري حتى مقام الشيخ عوض؟ أحبُ هذا المقام المستريح على تلّة عالية تُشرف على البحر المتوسط. إذا وقفت بالقرب منه فسوف تمتص نسمات هواء عليلة حرارة جسدكَ وتُشعِرك بسعادة ليس لها مثيل. نسيم المتوسط ونسماته هو حياة فلسطين وأهلها.
السيد يَحْيَى.
آخر زيارة قمتُ بها إلى مدينتك كانت في السابع من تموز 2023، أي قبل ثلاث أشهر بالتمام على طوفان الأقصى. قبل السابع من تشرين الأول 2023، حاولت كتابة نص عن زيارتي لمدينتك إلا أنّي لم أستطع أن أكتب نصّاً يختلف عن النصوص التي كتبتها سابقاً عن مُدن وقرى عبرتُ بها سيراً على الأقدام في وطني فلسطين. بدأتُ بكتابة مسوّدة من مئات الكلمات ومزّقتها ثم عدتُ وكتبتُ أكثرَ من ثلاث آلاف كلمة وقمت بتمزيقها أيضاً لتنتهي في سلة المهملات. كان ذلك في الخامس من شهر تشرين الأول 2023، قبل يوم من المَشي في هضبة الجولان. بعدها جاء "السابع من أكتوبر" فتوقّفت عن الكتابة أو العمل على فيلمي الجديد. كان اسمك يتكرّر في الإعلام الإسرائيلي والصهيوني وقاموا بنَبش كلّ الملفات التي يمتلكونها وجاؤوا بسجّانيك وضباط المخابرات الذين حقّقوا معك خلال فترة اعتقالك إلا أنهم لم يذكروا يوما إسم مسقط رأسك. لا أذكر إذا أشاروا إلى أنك عشتَ في مخيم خان يونس. وإن ذكروا، فالمخيّم بالنسبة لهم ليس إلّا مكاناً بائساً لأُناس لا يستحقّون الحياة في ظروف غير هذه. ناهيك عن أنّهم "متأكدين" أن "لا أصل لك ولا فصل". وإن كان لك فأنت وأهلك تفتقرون إلى عناصر الحضارة والثقافة والأخلاق. بالنسبة لهم أنتَ تُنافس الحيوانات على موقعها الإجتماعي والجغرافي ولا مكان لك ولا لأهلك ولأهل مخيم خان يونس والشاطىء بين البشر.
كنتُ أعرف أن الشيخ أحمد ياسين هو من جورة عسقلان، ثم اكتشفت نفس الأمر بالنسبة لإسماعيل هنيّة. أما أنت، سيّد يَحْيَى السنوار، لم أكن أعلم أبداً أنّك إبن مدينة مجدل غزة، أنّك إبن أكثر المدن الحضريّة في فلسطين، إبن مدينة النسيج والملابس والأزياء والذوق الرفيع، إبن مدينة التجّار ومقاهي المثقفين وصيدلية شاتيلا وصيدلية زكريا.
لم أكن أعلم أنّك إبن أكثر مدينة أعشقُها في فلسطين بل أحسبها المدينة الوحيدة التي نَمَت وأصبحَت لؤلؤة فلسطين بعيداً عن بعثات الاستعمار "التبشيرية" بإداراتها ومدارسها وعن أفكار المبهورين مِنّا بها. حين عرفت أنّك إبن مدينة مجدل عزّة كنت أسِير شوقَين: الشوق الأول أن أتعرَّف على مدينتك أكثر والشوق الثاني أن أعرف كيف بلورت المدينة وخسارتها نشاطَك ووعيَك وقرارك.
لا أخفي أن اسمكَ يجعلُ هذا النص أكثر شغفاً وفضولاً وتشويقاً.
لم أنتهِ من طرح الأسئلة بعد… أنظُر معي في هذه الخارطة، هنا بالضبط، "حوش العِلمي" عند "بنك الأمّة" الملاصق للحِسبة أي سوق الخضار. هنا شارع اسمه "شارع السنوار" هل كنتَ تعرف هذا الشارع؟ هل قمت بزيارته؟ هل عاش والدك وباقي أهلك هناك؟ ما سبب تسمية الشارع بشارع السنوار وهو الشارع الوحيد بالمدينة الذي يحمل إسماً لعائلة. الشوارع الأخرى لها تسميات مختلفة مثل "الشارع العام"، "شارع حمامه" (أي المؤدي إلى قرية الحمامة)؟
هل ما قمت به ومن معك في السابع من أكتوبر 2023 يستحقّ هذا الدمار والقتل الذي لَحِقَ بفلسطين؟
آسف آسف جداً، فلقد اتفقنا على ألّا أسأل أي سؤالٍ ذات طابع سياسي، وأصلاً لقد خرجتُ عن الموضوع، والأهم هنا، أن هذا سؤال هو للتاريخ وفقط التاريخ يجيب عليه.
كنتُ أودّ الكتابة عن المقاومة التي تشكّلت في فلسطين وبالأخص ذِكر محمد طارق الأفريقي ابن مدينتك وأصوله من نيجيريا. كنت أريد أن أذكُر كيف وَصَلَ المجدل وأكتبَ عن المعارك التي خاضها في "جوليس" و"البربر" و"المجدل" و"أسدود" و"بيت دراس"، إلا أن للحديث تتمّة. هل تربّيت على أساطير هذه المعارك؟ وهل ارتقى من آل السنوار أو أقربائك شهداء في هذه المعارك؟17
17 محمد طارق الإفريقي، المجاهدون في معارك فلسطين 1367ه -1948م
								صيدلية زكريا في الطابق الأول