حوالى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولمّا كان المثقفون العرب يخوضون نهضتهم، وصلت مجموعة من المهاجرين اليونانيين والطليان والأسبان إلى الشواطئ الجنوبية للبحر المتوسط. كانوا عمّالاً، ثوريين وأناركيين، غادروا أوروبا هرباً من الاستبداد والاضطهاد ولجأوا إلى مناطق أخرى جرّاء فشل ثوراتهم عام 1848. وجلبت ظاهرة الهجرة هذه معها أفكاراً تحررية من القارة الأوروبية إلى مدن واقعة على موانئ مثل الجزائر وتونس وبيروت والقاهرة والاسكندرية، كما غرست بذور رؤية يوتوبية تعذّر نموها في تربة هذه المدن. بيد أن تجارب هؤلاء ظلّت نموذجاً فريداً لإمكانية تلاقي المهاجرين في مدن واقعة على موانئ والتعاون عبر اتحادات عمالية ومبادرات مثل الجامعات الحُرّة والصحف والدوريات، وتقاطُعِها في لحظة تاريخية وتحولها إلى عوامل تغيير جذري.
وفي هذا العرض، نسعى إلى استشراف تاريخ تلك الحركات الراديكالية، وخصوصاً الحالة المرتبطة بالأناركيين الطليان في مصر، في محاولة لتقديم سردية بديلة لحقبة أرست أسس القومية العربية في القرن العشرين. وفي الوقت نفسه، نستشرف الموضوعات التي عملت على تحديد العلاقة غير المتكافئة بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها، وخصوصاً بين المجتمعات في شمال حوض المتوسّط وجنوبه، وبداية المرحلة الصناعية والتنظيم العمّالي والانتشار الحُرّ للمعلومات والصحف.
منذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأت موجة هجرات من أوروبا إلى جنوب البحر المتوسط سبّبتها تغييرات اجتماعية وسياسية، من بينها فشل "ربيع الأمم" في 1848 - وهو سلسلة من التمرّدات الكبيرة ضد الأنظمة المَلَكية والاستبدادية في القارة الأوروبية - مما أدّى إلى لجوء كثير من المناضلين، معظمهم من الاشتراكيين والأناركيين، إلى المدن الجنوبية، لاسيّما منها طنجة والجزائر والقاهرة والاسكندرية وبيروت.
في كتاب "الدَين: أول 5000 سنة"، يوضّح مؤلّفه ديفيد غريبر أن التباينات الاقتصادية الراسخة تنشأ عندما تُحبَط مسبقاً ونهائياً القدرة على سداد ديونٍ معيّنة كان سدادها ممكناً، وهو الأمر الذي ينشئ علاقة اجتماعية لصوصية تنهب ثروات المَدينِين وتودعها جيوب الدائنين.
وفي منتصف القرن التاسع عشر، كانت مصر ترزح تحت أزمة سياسية عميقة. ومع عجزها عن خدمة الدَين الذي تراكم جرّاء تمويل مشاريع بنُى تحتية باهظة وأسلوب عيش الخديوي اسماعيل الباذخ، أُرغِمَت مصر على الإذعان لسيطرة أوروبية على خزينتها في 1876. وبعد ثلاث سنوات وبضغط أوروبي، تمت تنحية اسماعيل ليخلفه ابنه توفيق الذي بذل كل جهوده لإرضاء دائني مصر. ونتيجة لذلك، نشب نزاع على السلطة بين نخبة تركية - قوقازية وضباط وطنيين مصريين بقيادة أحمد عُرابي الذي سعى إلى تشكيل حكومة دستورية. وفي مطلع 1882، جابهت عُرابي، وكان وزيراً للدفاع، حكومتا بريطانيا وفرنسا اللتين قررتا الدفاع بشراسة عن الاستثمارات الأوروبية وعن مواطنيهما المقيمين في مصر.
وكمعادٍ للأجانب، تلقى عُرابي بالفعل دعماً من عناصر شكّلتها جاليات أجنبية، من بينهم عمّالٌ إيطاليون في الاسكندرية وعددٌ من الأناركيين. فقصف البريطانيون الاسكندرية وأنزلوا فيها قواتهم التي شنّت هجوماً على عُرابي وهزمته أخيراً في التل الكبير في شهر سبتمبر. وما لبث البريطانيون أن احتلوا سريعاً الأجزاء الباقية من البلاد.
كان برنامج التحديث الذي اعتمده محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر وانضمام مصر تدريجاً إلى النظام الرأسمالي العالمي في النصف الثاني، قد أخذ يقوّض البُنى الاجتماعية والاقتصادية القائمة. ذلك أن تعاظم التجارة الأجنبية والطلب على كميات كبيرة من السلع واستيرادها وتدفّق رساميل الاستثمار في شركات الاستملاك، فضلاً عن ازدهار قطاعَي الزراعة والصناعة في مصر، كل ذلك أدّى إلى تغيير بالغ في دور النقابات اقتصادياً واجتماعياً كما في سِمات الطبقة العاملة. وعلى الضفة الأخرى، كان لفشل ثورات 1848 (ربيع الأمم) في اوروبا وقع كبير على الحركات الثورية، خاصة ايطاليا،
وحصلت أولى موجات الهجرة المهمة إلى مصر أثناء فترة الازدهار بين 1860 و1870. وبحلول 1897، كان بين 15% و20% من سكان الاسكندرية، البالغ عددهم 320 ألف نسمة، من حوض المتوسط. وإلى جانب سكانها المصريين الأصليين، احتضنت المدينة عمّالاً يونانيين وطليان وأرمن ومالطيين وسوريين وسواهم. وبحسب دراسة للباحثة إلهام خوري-مقدسي، انخرط هؤلاء العمّال المتوسطيين في كل الأنشطة المهنية، في الحِرف كما في الصناعات الخفيفة، أما النِسب المرتفعة من العمّال المهاجرين فتميّزت بها الموانئ وسكك الحديد ومصانع التبغ. وقدّر إحصاء 1897 وجود القوى العاملة من غير السكان الأصليين بنحو 5% في القطاعات الصناعية والتجارية والخدماتية، معظمهم يعمل في مصانع الاسكندرية والقاهرة. وفي بعض القطاعات كانت النسبة أعلى بكثير؛ فما يزيد عن 50% من العمال في مصنع التعدين في الاسكندرية كانوا إيطاليين، وحوالى 20% من عمّال البناء كانوا غير مصريين (معظمهم طليان)، ونسبة مماثلة من العمّال غير المصريين استُخدموا في صناعة الألبسة.
ومع الوقت، تزايدت أعداد هذه البروليتاريا العابرة للمتوسط. ووفقاً لأحد التقديرات، كان حوالى ربع عمّال السكك الحديد في مصر في 1907، من الأجانب، ما يشكّل تقريباً 5 آلاف عامل في أكبر قطاع توظيف في المُدن. وبحلول 1917، بات العمّال القادمون من جنوب أوروبا يمثّلون نحو 20% من عدد عمّال القطاع الصناعي في الاسكندرية. غير أن كثيرين من هؤلاء العمّال المهاجرين من عابري المتوسط إلى مصر لم يكونوا أجانب غرباء تماماً - أو على الأقل ليسوا غرباء بالطريقة نفسها - نظراً إلى أنهم كانوا من الرعايا العثمانية.
وفي قطاعات معيّنة، وخصوصاً صناعة التبغ والخياطة، كان العمّال العثمانيون - وهم يونانيون وأرمن وسوريون ويهود من البلقان - يشكّلون شطراً كبيراً من القوى العاملة. وفي أحد الإضرابات التي نظّمها الخيّاطون في القاهرة في 1901، هُتِفت شعارات باللغة التركية، بينما كان عمّال التبغ والخياطون يتظاهرون في شوارع العاصمة. وحمل المحتجون بكل فخر لافتات اتّحادهم المكتوبة بلغات متعددة، مع شعارهم مكتوباً بالعربية والإيطالية واليونانية واليهودية - الأسبانية والأرمنية. وعندما وصل المتظاهرون ألى ميدان الأوبرا في القاهرة، كان عددهم قد بلغ حوالى الثلاثة آلاف.
كان العمّال المهاجِرون والعابرون ناشطين في شكل مميّز وحضورهم فائض في الإضرابات، سواء في المشاركة أم القيادة. وكانت أسماء أجنبية مرتبطة بالإضرابات تبرز باستمرار وأصحابها في أعلى درجات السُلّم التنظيمي من ناطقين ومحرّضين ومنظّمين. وكان الأجانب في طليعة من قاموا بتعبئة زملائهم العمّال للعمل الجَماعي، ونشر العرائض في الصحف، وتداول المنشورات والبيانات متعددة اللغات التي تروج للأفكار الاشتراكية أو الأناركية أو الأناركية النقابية.
وبين 1870 و1890 تقاطر العمّال من البلقان وإيطاليا وأسبانيا إلى مصر وشمال أفريقيا وأجزاء مختلفة من شرق المتوسط والأناضول، حيث كانت الزيادة في الأجور الحقيقية الأعلى في محيط حوض المتوسط. بعضهم أقاموا طويلاً في المدن التي حلّوا فيها؛ وبعضهم الآخر جاء من المواسم أو كانوا عابري سبيل. أما بيروت (وسوريا عامّةً) فاستقطبت العمّال العابرين - من بينهم العمّال الطليان والمسيحيون واليهود من أوروبا الجنوبية والوسطى والشرقية، من الحِرفيين. ورأى معظم المراقبين أن الإضرابات التي نفّذها عمّال الفحم لرفع أجورهم في بور سعيد حصلت نتيجةً لشكل جديد مميز من الاستغلال الرأسمالي الماركسي، حيث يبيع العمال الذين جُرّدوا من وسائل عيشهم قوة عملهم مقابل أجر للرأسماليين.
ظهرت الأناركية في مصر أولاً بين اللاجئين السياسيين والعمّال الطليان خلال ستينيات القرن التاسع عشر. وقد غذّتها شبكة عمّال عالمية في طور النشوء، والاتصالات والمواصلات عبر المتوسط، فتوسّعت خارج الأوساط الإيطالية لتستقطب، على مدى عقود تلت، أعضاء أتوا إليها من المجتمعات الإثنية والدينية المتتنوّعة.
ولعلّ الإمبراطورية العثمانية عموماً، ومصر بخاصة، كانت تؤوي الثوريين الأوروبيين منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، بمنح حق اللجوء للإيطاليين كما للمشاركين في ثورات 1848 الذين فرّوا من أوروبا جرّاء أعمال القمع. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر، بدأ الأناركيون الإيطاليون يتوجّهون إلى هناك لعدد من الأسباب. فبالنسبة لبعضهم باتت الإمبراطورية العثمانية تجسد الاستبداد والقمع، والثورة فيها ستؤدّي حتماً إلى تدميرها واستبدالها لاحقًا، بـ "اتحادٍ جمهوري لمقاطعات البلقان مع القسطنطينية كمدينة حرة"، على حد تعبير أحد الأناركيين البارزين. وشارك عدد من الأناركيين في نضالات التحرير التي حصلت في مقاطعات عثمانية مختلفة، لاسيّما منها جزيرة كريت في 1866 و1896، على أمل التعجيل في تدمير هذا الكيان الاستبدادي.
في السنوات الأولى للاحتلال البريطاني (1882 -)، ابتليت الحركة الأناركية في مصر بالتشرذم والخلافات والانشقاقات. وكانت الأناركية قد ظهرت في أوروبا كإيديولوجيا سياسية أساسية، وأكثرها حيوية في إيطاليا وأسبانيا، وما لبثت أن انتشرت في كل العالم، من أميركا الجنوبية إلى شرق آسيا، في حين كان أنصارها يفرّون من أوروبا هرباً من القمع الذي اشتدّ إثر موجة من التفجيرات والاغتيالات السياسية في تسعينيات القرن التاسع عشر. وفي ذلك الوقت، كانت المدن المصرية متّصلة في شكل وثيق بشبكات الإعلام والاتصالات العالمية، فكانت تصلها الأخبار سريعاً من كل أنحاء العالم، بفضل التلغراف ووكالات الأنباء ونظام بريدي موثوق ووفرة من الدوريات. وتدفّق الناس كما البضائع إلى هناك بيسر وانتظام، عبر قناة السويس، وشبكة سكك حديد مترامية، وسفن بخارية تربط الاسكندرية بباقي أقطار العالم، وتحديداً بإيطاليا. وبالنسبة إلى الأناركيين الأمميين الدائمي الحركة والتنقّل، كان الوصول إلى هذا النوع من البنية التحتية أمراً حيوياً.
وتم الحفاظ على علاقات منتظمة مع مجموعات في تونس وفلسطين ولبنان، فيما كان الناشطون الأفراد يعبرون المتوسّط روحة وجيئة أو يتبعون الخط الساحلي لشمال أفريقيا، مستفيدين من شبكة بناء على توصية شخصية ورؤية أيديولوجية مشتركة. وكانت تلك الصلات تعمل خارج نطاق المتوسط، فتتواصل مع المراكز الأوروبية الرئيسية، وتتوسّع أيضاً عبر الأطلسي.
كانت غالبية الأناركيين من الحرفيين المَهَرة، نجّارين وبنّائين وصنّاع أثاث وإسكافيين وحجّارين وخياطين، وهي ظاهرة تفسّرّها المزايا التي يتحلّى بها التجار الحاذقون ويتفوّقون بها على عمّال المصانع، مثل التقليد النقابي الراسخ والمستوى التعليمي الأفضل والأمان الاقتصادي الأكبر. وأتى بعضهم من البورجوازية الصغيرة، وبخاصة البقّالون وصنّاع المجوهرات وأصحاب الحانات والخمّارات الذين كانت توفّر محلاتهم أمكنة مؤاتية للاجتماعات. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، انتقل ثقل الحركة من محور الحرفيين نحو الطبقة العاملة الجديدة، وخصوصاً نحو عمّال التبغ والمطابع وموظفي الشركات الكبيرة الجديدة والمؤسسات العامة، مثل شركات الترامواي.
واجهت الحركة الأناركية مصاعب كبيرة في مصر. تعسّف الدولة بشن حملات مشدّدة من المراقبة والملاحقة وأحياناً الترحيل، لا شك أنها أنهكت الحركة وأعاقتها مثلما فعل تصنيفها من قبل السلطات كمجموعة مغامرين سياسيين منحلين يروّجون لأفكار غريبة.
غير أن الإنجاز الذي حقّقه الأناركيون في صوغ خطاب مناهض للرأسمالية في القرن التاسع عشر، وفي الدعوة إلى التحرر الاجتماعي وتحرير وعي العمّال، استأثرت به، منذ بداية عشرينيات القرن العشرين، قوى أخرى أبرزها الحزب الشيوعي المصري والحركة الوطنية المصرية.
1860
في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر، تأسست "جمعية العمال الإيطالية" في الإسكندرية لحماية مصالح أعضائها، وكانت الأولى في سلسلة منظمات إيطالية وما لبثت أن اصطبغت بالسياسة. ثم في منتصف العقد التالي، أسس مناضلون وراديكاليون إيطاليون رابطة تدعى "فكر وفعل". ومباشرة بعد 1876، برزت جماعة منشقة أكثر راديكالية لتشكّل جناحاً رسمياً من "الأممية الأولى" في الإسكندرية. ثم تشكل المزيد من الأجنحة في القاهرة وبورسعيد والاسماعيلية خلال السنة التالية وقدّمت تقريرها الأول ضمن مؤتمر "الأممية المناهضة للسلطوية الذي أقيم في فرفيرز ببلجيكا في سبتمبر.
ورغم طبعها الإيطالي الطاغي حتى في تلك المرحلة المبكرة، كانت الحركة تسعى إلى توسيع نشاطاتها إلى خارج حدود هذه الجالية الإثنية. وبدعم من جناح القاهرة والاتحاد اليوناني، استطاعت أن تضمن اقتراحاً بنشر البروباغاندا الاشتراكية في الشرق باللغات "الإيطالية ولغات بلاد البلقان واليونانية والتركية والعربية".
لعلّ أميلكار تشيبرياني (1844 - 1918)، الشخصية البارزة المتقلّبة في السياسات الثورية بالقرن التاسع عشر، كان من الأوائل الذين زاروا مصر مرتين في ستينيات القرن التاسع عشر. فقد حضر تأسيس الأممية في لندن في 1864 وشارك في معارك الدفاع عن كومونة باريس في 1871، وحُكم عليه بالموت ولكنّه نُفي إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة الجزائية بالمحيط الهادئ مع 7000 آخرين من السجناء. وخلال زيارته الثانية إلى مصر في سبتمبر 1867، تورّط في مقتل ثلاثة أشخاص.
ثم أوقف تشيبرياني وسُجن في إيطاليا في 1881 بتهمة قتل رجل إيطالي في الإسكندرية في 1867. في وقت سابق، اعتُبِرَت هذا الحادثة دفاعاً عن النفس، لكن السلطات الإيطالية تذرعت بالقضية لعرقلة نشاط تشيبرياني أثناء حملاته الثورية في 1881. فتحوّل سجنه إلى قضية عامة تحتفي بها أوساط اليسار.
1869
في عام 1869، أكمل عمّال من مصر ودول البحر الأبيض المتوسط مشروع قناة السويس. تعود جذور وجود الطبقة العاملة الأجنبية في مصر إلى نهاية القرن التاسع عشر، وخاصة سياسات محمد علي، حاكم مصر من عام 1805 حتى عام 1849. شرع محمد علي في برنامجه لتحديث الجيش وإدارة الدولة والاقتصاد، ما شجع العمال الذين يملكون المهارات اللازمة على الهجرة إلى مصر للمساعدة في هذه المهمة. وتحت حكم سعيد (1854-1863) وإسماعيل (1863-1879)، تم المضي قدمًا في سلسلة من مشاريع البنى التحتية الضخمة، مثل إنشاء شبكة سكك الحديد وتوسيع نظام القناة وبرنامج بناء حضري واسع النطاق. واستقطبت هذه المشاريع، وخاصة المشروع الرئيسي، أي بناء قناة السويس، أعدادًا كبيرة من العمال الإيطاليين واليونانيين والسوريين والدلماسيين. ظاهرة توافر وتوظيف مثل هذه العمالة المتعددة الجنسيات، سواء من مهاجرين دائمين أو عمال موسميين، لم تكن ظاهرة محصورة بمصر، بل كانت جزءاً من ظاهرة أوسع تكررت في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط وفي العالم الجديد (القارة الأميركية)، واضعةً أسُس شبكة دولية لانتقال العمل ورأس المال والسلع والأفكار.
1876
في أبريل 1876، كان الأناركيون في الإسكندرية يديرون فرعاً للرابطة الأممية للعمّال (الاتحاد الإيطالي للرابطة الأممية للعمال). وبعد عام تماماً، أعلن هذا الفرع ولاءه للمؤتمر الاشتراكي العالمي في غِنْتْ ببلجيكا وأرسل مندوباً يمثّله. ورغم أن الخلاف بين الاشتراكية والأناركية كان يتفاقم في أوروبا في ذلك الوقت، بقي ثمة درجات من التعاون، طالب على أساسها فرع الإسكندرية المؤتمر بإقامة مكتب فيديرالي لنشر الاشتراكية في "المناطق الشرقية" من خلال نشر الأعمال باللغات بالإيطالية وبلاد البلقان واليونانية والتركية والعربية.
1872
عام 1872، تأسست أول نقابة عمالية في مصر تحت اسم أخوية العمال، على يد عمال يونانيين، جاء معظمهم من جزيرة كورفو.
1877
في فبراير 1877، أصدرت مجموعة الإسكندرية للأممية صحيفة "العامل" (Il Lavoratore) التي ما لبثت السلطات أن أغلقتها. وإنشاء هذه الصحيفة، وهي أول دورية أناركية تظهر خارج إيطاليا، ساهم أيضاً في إقامة الروابط والحفاظ عليها مع اليسار الدولي وتحديداً الشبكات الأناركية الإيطالية. ورسّخ أيضاً قوة الشبكة الإيطالية في مصر ودورها الريادي بين الشتات الأناركي الطلياني في العالم.
في سبتمبر 1878، غادر إريكو مالاتيستا مدينة نابولي الإيطالية هرباً من الاعتقال متوجهاً إلى الإسكندرية حيث نَمَت تجمّعات العمّال الإيطاليين. في تلك الفترة، وبعد أن تولّى الملك أمبرتو الأول عرش إيطاليا، حاول الجمهوري باسامانتي اغتيال الملك الجديد. إلان أن المحاولة فشلت ونتج عنها حملة قمع واسعة النطاق في جميع أنحاء إيطاليا، استهدفت الأناركيين على وجه الخصوص. أما في مصر، نظّم العمال الإيطاليون مظاهرة أمام القنصلية الإيطالية.
1881
حلّ أوغو إتشيليو بارني في الإسكندرية في 1877 (وُلد عام 1850 في ليفورنا بإيطاليا وتوفي في المنصورة عام 1906). وفي مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، كرّس نفسه لإعادة تنظيم الحركة الأناركية، بتوحيد مجموعات منشقّة مختلفة هناك ودعوتها إلى حضور اجتماعات (مثل الذي عُقد في 1881 وحضره 100 أناركي). وأنشأ مطبعة سرية في الإسكندرية استمرت تعمل حتى 1882. وقد استخدمها الأناركيون لطباعة البيانات والدوريات والكرّاسات، كالذي يحتفي بذكرى كومونة باريس. وأسس باريني أيضاً "الدائرة الأوروبية للدراسات الاجتماعية، وهي مجموعة بحثية فُتحت أمام كل الذين رغبوا في دراسة المسألة الاجتماعية. فرّ وطُرد بالقوة مرات عدّة مع قدوم الاحتلال البريطاني، ليعود إلى مصر في كل مرة. لم يُعرف الكثير عن نشاطات باريني وسواه من الأناركيين في المدينة في تسعينيات القرن التاسع عشر، لكن أعدادهم في مارس 1892 تزايدت في شكل كبير يكفي لكي ينظّموا تظاهرة واحدة على الأقل تخللها خطابات وأناشيد في ساحة محرّم بيه. وخلال تلك التظاهرة ألصقت بيانات باكونين على جدران المدينة.
1881
في 1881 بالإسكندرية، أسس الأناركيون "الدائرة الأوروبية للدراسات الاجتماعية" لدراسة المسائل الاجتماعية. وكانوا يديرون مطبعة سرية لطباعة الملصقات. وفي السنة نفسها، عُقد مؤتمر في سيدي جبر حضره مئات الناشطين من فرق أناركية مختلفة ومنتشرة في أرجاء مصر.
ومهّدت تلك "الدائرة الأوروبية" الطريق إلى غرفة القراءة الأممية، وهي عبارة عن مكتبة صغيرة في القاهرة تضم مؤلفات وصحف أناركية، فتحت أبوابها للعموم في يونيو 1902. وكانت توزّع البيانات باللغتين الإيطالية والعبرية (أو الييديش) في المناسبات. تلت ذلك سلسلة من المؤسسات، مثل نادي الدراسات الاجتماعية الذي أطلقه في الإسكندرية شباب أناركيون يهود في 1903، وفي السنة التالية غرفة القراءة التحررية في القاهرة. وبعد ثلاث سنوات، دعت لجنة من الأوروبيين واليهود المحليين والمصريين، "جميع العمّال وأصدقاء العدالة" إلى التعاون لتأسيس غرفة قراءة أممية تنفّذ نشاطات علمية وفلسفية وسياسية واجتماعية بكل اللغات. ثم تجاوزت منظّمات أخرى غرفة القراءة، مشدِّدة على الجوانب الخاصة بالفكر التحرري. وقامت نوادي الإلحاد في القاهرة والإسكندرية، بينما نُظّم قسم للمفكّرين الأحرار في الإسكندرية فاق عدد أعضائه المئتي شخص.
في مصر، حارب عدد من الأناركيين الطليان، ومن بينهم إيريكو مالاتيستا، البريطانيين في 1882، إلى جانب المصريين.
ففي عام 1878، وصل إلى الإسكندرية عدد من الناشطين الأمميين هرباً من القمع في أعقاب ثورة بينيفينتو في ايطاليا، ومن بينهم مالاتيستا. بقي مالاتيستا في الإسكندرية لفترة قصيرة مع أخيه الذي كان يعيش في المدينة. لكنه عاد إلى مصر عام 1882 عندما حاول الأناركيون، دون جدوى، دعم حركة أحمد عرابي. وما يزيد من أهمية هذا الكفاح العابر للحدود وجود بعض من أركان الأناركية مثل مالاتيستا نفسه وأميلكاري تشيبرياني، وكلاهما سيقود في المستقبل الحزب الأناركي الإيطالي الذي أنشئ في إيطاليا في 1891. وكانا معروفين جداً في الأوساط عندما تلاقيا وتقاربا في الإسكندرية. وبالفعل، في 1882 تبيّن أن مالاتيستا ورفاقه الأناركيين خاضوا معارك في صفوف الثورة العرابية ضد المحتلين البريطانيين في تلك السنة، وأوقف بعضهم بينما فرّ آخرون.
وفي مؤتمر في لندن في يوليو 1881، والذي نُظّم كمحاولة لإعادة تشكيل الأممية، مثل مالاتيستا أمميي الاسكندرية.
1882
بدأ عمال الفحم في قناة السويس في مصر إضراباً عن العمل. يُعتَبَر هذا الإضراب الأول في تاريخ مصر الحديث. وخلال العام نفسه، بعث رئيس نقابة عمال إيطاليا بالإسكندرية برسالة إلى الحكومة الجديدة برئاسة رئيس الوزراء سامي باشا البارودي معرباً عن تأييد النقابة لتمرد أحمد عرابي وتنديدها بالتدخل الأجنبي.
1889
في 18 مارس 1889 بمصر، حصل أول احتفال سنوي موثّق بكومونة باريس التي تأسست في 1871. كانت ذكرى كومونة باريس إحدى أهم التواريخ بالنسبة للعمال آنذاك. ولكن انتشار تاريخ الأول من مايو بين الطبقة العاملة في فترة لاحقة جعله يوم التعبير الأهم عن التضامن الدولي للعمال.
1894
في 18 مارس 1894، نشرت صحيفة "الهلال" المصرية خبراً عن اعتقال عامل يوناني في الإسكندرية بتهمة توزيع ما تسميه الشرطة "منشورات فوضوية". وتدعو المنشورات العمّال للاحتفال بالذكرى السنوية لكومونة باريس وذُيل المنشور بعبارة "تحيا الأناركية" (أو "تحيا الشيوعية" حسب ترجمة أخرى).
1894
في الأول من أكتوبر 1894، نفذ عمال يونانيون من شركة قناة السويس إضراباً عن العمل
1894
عام 1894، أسس اليوناني ساكيلاريديس ياناكاكيس نقابة صانعي الأحذية
1898
في 1898، حطّ بييترو فاساي، وهو أناركي إيطالي عمره 32 سنة، رحاله في الإسكندرية بعد جولة في المتوسط استغرقت ثلاث سنوات. وفاساي الذي وُلد وترعرع في فلورنسا، كان انخرط في المشهد الأناركي بتوسكانا وهو في سنّه السادسة عشرة، وما لبث أن أصبح من أبرز شخصياتها بانضمامه إلى الأوساط الأناركية والاشتراكية وإدارته إحدى أهم الدوريات الأناركية في ذلك الوقت، "المسألة الاجتماعية"، التي أساسها إرّيكو مالاتيستا وهو من أعمدة الأناركية الإيطالية.
تلك كانت سنوات خطيرة اشتد فيها القمع ونثرت المداهمات التي شُنّت على الأناركيين في كل أوروبا، وقد أكل نصيبه منها بعد كل عودة من المنافي التي كان يختارها لنفسه. وقد أكسبه انخراطه في نشاطات الأناركيين المحليين خبرة في النضال العمّالي واحتراماً كبيراً وشهرة إثر نجاحه في إقامة شبكة علاقات مع زملاء أناركيين من كل أنحاء العالم. وفي المقابل، صنّفته الشرطة الإيطالية في ملفاتها كـ "أناركي خطير". وفي 1896 استأنف حكماً بالسجن وفاز بعفو لقاء مغادرته البلاد.
ثم رحل فاساي إلى مصر ووصل أخيراً إلى الإسكندرية التي بقي فيها حتى 1914. وقد ركّز الأناركيون على نشر الدوريات والبيانات. وفي الإسكندرية سبعٌ منها صدرت ما بين 1877 و1914. واستغل فاساي مهاراته كمطبعي في إنتاج دورية لا تزال موجودة مع جوزيف روزنتال الأناركي اليهودي الذي كان لديه بعض العلاقات مع بيروت وانتقل إلى الإسكندرية من القاهرة في 1899.
في أكتوبر 1898 بمدينة الإسكندرية، اعتُقل 8 مراهقين أناركيين بتهمة التآمر والتخطيط لاغتيال إمبراطور ألمانيا ويلهلم الثاني في أثناء جولته في الشرق الأوسط. وبذيوع الخبر على نطاق واسع عبر الإعلام المحلي والعالمي لزيادة تأثيره، بدت المسألة أنها من إعداد عميل محرّض، وربما بمساعدة القنصلية الإيطالية، ما يجعلها تعكس قلق السلطات أكثر مما هي خطر فعلي من عمل ثوري عنيف ينفّذه ناشطون محليون. وكانت السلطات القنصلية المحلية حريصة على إذكاء الشعور بالتهديد الذي تشكله الأناركية على المجتمع ككل.
وبالفعل، تظهر مذكرات نائب القنصل الايطالي في الاسكندرية أبوليناري بورديسي أنه شك بمحاولة اغتيال تُحضَّر ضد إمبراطور ألمانيا. وبحسب جريدة الأهرام المصرية، بالتعاون مع الشرطة المصرية، داهم بورديسي ليل 14 أكتوبر 1898 حيّ محرم بك حيث كان يقطن العمال العرب واليهود والاوروبيون الفقراء في ضواحي المدينة. وُجدت قنبلتين في حانة يملكها الأناركي الايطالي أوغو باريني، بجانب مناشير تحريضية ودوريات أناركية ولائحة بأسماء الأشخاص المسجلين على قوائم توزيع المنشورات. وكانت الحانة مركز لقاءات الأناركيين في المدينة. وكان باريني معروفاً بأفكاره المتقدمة آنذاك ومبادراته الخيرية. استخدم بورديسي القنبلتين الموضوعتين من قبل شخص مجهول في الحانة، كحجة لتوقيف عدد من الشبّان لورود أسمائهم في لوائح توزيع المنشورات، وأسس الحدث لتعاوني سري بين أجهزة الأمن الأوروبية لمواجهة الأناركيين في مصر. حتى أن بورديزي قرر مراقبة جميع المنشورات والرسائل البريدية التي كانت تصل إلى مركز البريد لمراقبة حركة الأناركيين في المدينة.
خلال المحاكمة في العام التالي، تمت تبرئة جميع المتّهمين من تهمة التآمر، بالرغم من إدانتهم بتهم أقل خطورة تتعلق بحيازة مؤلفات أدبية محظورة.
1899
في ديسمبر 1899، نسّق عمّال مصانع التبغ في القاهرة نشاطاتهم ونفّذوا إضراباً في وقت واحد. وفي أحد أبرز الإضرابات التي شهدتها صناعة التبغ في العاصمة المصرية، شارك عمّال مصانع الألبسة الأوروبية ("خياطي الثياب الإفرنجية") بحضور الاجتماعات وتسيير التظاهرات، وانضمّ إليهم عمّال لف السجائر وغيرهم من قطاعات أخرى. ووصلت تعبئة العمّال إلى حدّ بلغ معه عدد المتظاهرين 1500.
1900
في بداية عام 1900، نشر العامل اليوناني "ك. أستيرياديس" كتيّب بعنوان "العمل ورأس المال أو الهيمنة والمال"، متبنيّا آراء اناركية نقابية.
كان لويجي غالياني أناركياً إيطالياً ينشط في الولايات المتّحدة بين 1901 و1919. عُرف لمناصرته الحثيثة لمبدأ "بروباغاندا الفعل"، أي توسّل العنف للتخلّص من كل من يستخدم الطغيان والقمع كما للتحفيز على الإطاحة بالمؤسسات الحكومية القائمة. فرّ غالياني (1861 - 1931) من سجنه على جزيرة بانتيليريا ولجأ إلى مصر في نهاية 1900. فأبلغته السلطات المصرية بأنها ستتخذ قريباً إجراءات ترمي إلى ترحيله إلى إيطاليا، فغادر مصر في شكل فجائي إلى لندن على متن سفينة. وفي نوفمبر 1901 غادرها إلى الولايات المتحدة حيث تولى إدارة التحرير في الصحيفة الأناركية La Cronaca Sovversiva (التدوينات الهدّامة).
1901
تأسست دورية "المنبر الحر" (La Tribuna Libre) الناطقة بلغتين في 1901، وكانت توزّع بأكثر من ألف عدد، 600 منها كانت تُرسل إلى إيطاليا. وكانت تنشر نصوصاً مترجَمة لكروبوتكين وباكونين وريكلوس، وتولستوي، فضلاً عن مقالات لأناركيين طليان مثل مالاتيستا. كما ضمّت قسماً للشؤون المحلية، تناقش فيه مبادرات الأناركيين المحليين، مثل المحادثات والاجتماعات والإضرابات.
وبشّر ظهور "المنبر الحر" بلغتين بزمن متجدد من النشاطات في أكتوبر 1901. طرحت نفسها "عضواً أممياً لتحرر البروليتاريا، وهي لم تسعَ لأقل من "الانعتاق الكامل من العبودية الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية" لعمّال العالم. وعلى مدى سبعة إصدارات ظهرت قبل نهاية السنة، نجحت في إرساء مثال للصحافة الراديكالية التي تلت، بتقديمها مقالات حول الفكر الأناركي، وأخبار محلية وعالمية عن الحركة، ومقتطفات من كتّاب مرموقين مثل ليو تولستوي، إضافة إلى سلسلة حول التربية للأناركي الهولندي فردينان دوميلا نيواهاوس.
1901
مساء يوم الأحد 26 مايو 1901 ، أُعلِن افتتاح الجامعة الشعبية الحرة (Università Popolare Libera) في مدينة الإسكندرية. فكرة المدرسة مستوحاة من إليزيه ريكلو (Élisée Reclus) وغالباً ما نظّمها الأناركيون الإيطاليون. سعت هذه المبادرة الراديكالية إلى "تعزيز انتشار الثقافة العلمية والأدب بين الطبقات الشعبية" على أساس العلمانية والأممية ومناهضة الاستبداد. كانت الجامعة الشعبية الحرة المبادرة الأكثر جذرية في التعليم في مصر قبل الحرب العالمية الأولى وجزءًا من نمط أوسع من النشاط الأناركي الذي لعب دورًا مهمًا في تطوير الحركة العمالية، والنشاط السياسي الشعبي والفكر التقدمي في السنوات الأولى من القرن العشرين. كان للجامعة الشعبية الحرة في مصر طابعها الخاص ، الذي تشكل من دوافع ثورية وفهم لواقع المجتمع الديني والعرقي واللغوي المتنوع.
في 1904، قدّم بييترو غوري محاضرات "خبز وحرية" في الإسكندرية، وعُلم أن "حشداً كبيراً" حضرها، كدليل على استقبالها بالترحاب. ومر بييترو غوري بمصر وفلسطين مطلع 1904، خلال جولة ألقى فيها عدداً من المحاضرات.
1906
في 1 مايو 1906، علّق الأناركيون المصريون ملصقاً يقول:
في هذا اليوم، وعبر البحار والحدود، توحّدت أقليات واعية من الناس من مختلف الأعراق والأديان والجنسيات والتقاليد في تطلّعاتها نحو التقدّم المدني والحب والسلام والرفاه والحرية لإلقاء التحية على 1 أيار كيوم مصيري."
ووقّع الكتّاب رسالتهم بصفتهم Gli Ararchici (لي أناركيتشي) أو الأناركيون.
1907
في يناير 1907، انطلقت سلسلة من الاحتجاجات في الإسكندرية والقاهرة اعتراضاً على إشاعة ترحيل ثلاثة من الثوريين الروس. نظّم العمال الأجانب في الإسكندرية والقاهرة، بينهم يونانيون، مظاهرات وتحرّكات أخرى ضد ترحيل اللاجئين. كان اللاجئون الروس قد فرّوا إلى مصر هربًا من موجة القمع التي أعقبت ثورة 1905 الفاشلة في روسيا.
1907
في ربيع 1907، انضمّ إلى إضراب سائقي سيارات الأجرة سائقو عربات الأجرة وحائكو الحرير والجزارون وغيرهم من العاملين في قطاعات أخرى. واستمرّت احتجاجاتهم ستة أسابيع، ضمن تحرّك وُضف حديثاً بأنه "بالتأكيد أهم موجة احتجاج شعبية تسبق ثورة 1919 في مصر".
1909
صدر عن مؤتمر الأناركيين الذي عُقد في 1909 بمصر بياناً تأسيسياً (مانيفستو) أناركياً نوّه بالمطالب الأساسية لإلغاء الملكية الخاصة والدولة. ومع ذلك، أولى اهتماماً أكبر لهدف التحوّل الاجتماعي عن طريق البروباغاندا والتعليم والنقابات العمالية، بأن حض الأعضاء المشاركين:
"... على الانخراط جماعياً أو فردياً في أي عمل تحريضي ذي طبيعة أخلاقية واقتصادية واجتماعية، والمشاركة بحيوية في جميع النضالات العمالية المناهضة لرأس المال، [...] مع المحافظة على حياتهم الخاصة والعامة في توازنها بين المثالية والفعل بهدف استدرار التعاطف الشعبي نحو الأناركيين."
1909
في 1909 بالقاهرة، نشأ "الاتحاد العالمي النقابي - الأناركي" كقوة صناعية وأخلاقية مؤثّرة. وكشفت الأمر صحيفة قاهرية أكّدت بثقة إذ أعلنت:
"لحسن الحظ في القاهرة، أخذت تتوسّع أكثر فأكثر حركة هدفها إشاعة التآخي بين الطبقات العمالية، ولن تمرّ سنوات كثيرة حتى تتحوّل مدينة الخلفاء إلى أحد المراكز الأولى للاشتراكية بسبب طابعها الدولي."
تضافرت مشاعر العداء الأناركية للسلطة الدينية والاستبداد السياسي بعد ألقاء الحكومة الإسبانية القبض على فرانشيسكو فيرير إي غوارديا، وهو مفكر أناركي بارز ومدرّس ومؤسس حركة المدرسة الحديثة في إسبانيا، متهمة إياه بالمشاركة في انتفاضة مناهضة للتجنيد الإجباري. إنتشرت أخبار توقيف فيرير بسرعة وأثارت احتجاجات واسعة النطاق على الصعيد الدولي. تم تشكيل لجنة مؤيدة لفيرير في الإسكندرية ووُزعت مئات النسخ من منشور "رقم واحد" في 30 سبتمبر 1909 للتعريف بالقضية. في 4 أكتوبر من نفس العام، شجب عدد من المتحدثين تصرفات الحكومة الإسبانية في اجتماع عقد في جامعة الشعبية الحرة. على الرغم من هذه الاحتجاجات وغيرها، تم إعدام فيرير في برشلونة بعد بضعة أيام، لكنه سرعان ما اكتسب مكانة الشهيد بالنسبة لكثيرين من الطبقة العاملة. بعد حوالي الشهر، نظم عدد من المنظمات الأناركية في القاهرة مسيرة إحتجاجية مؤيدة لفيرير. بحلول نهاية العام، تم وضع لوحة تذكارية لذكرى فيرير في الإسكندرية وفي الأول من مايو من العام التالي، هتف المتظاهرون: "عاش الأول من نوار، عاشت الحرية، عاش فرانشيسكو فيرير".
1909
في عام 1909، خلال حفل إعلان تأسيس الاتحاد الدولي للعمال والموظفين، خاطب المتحدثون جمهورًا يزيد عن ألفي شخص حول أهمية العمل الجماعي والتضامن الدولي، متحدثين باللغات العربية والفرنسية واليونانية والإيطالية والألمانية. كانت قيادة النقابة متععدة الجنسيات أيضاً. فتأسست لجنة من 14 عضواً بينهم خمسة يونانيين وخمسة مصريين واثنين سوريين وإيطالي وأرمني. كانت نقابة صانعي الأحذية تتبع النهج نفسه لجهة تعدد جنسيات أعضائها. كان الاتحاد (بالعربية، النقابة المختلفة) أوضح تعبير عن وحدة العمال الأجانب والمصريين وقضاياهم. وشكّل الإتحاد الأداة الأسمى للتنظيم الأناركي-النقابي. تأسست هذه النقابات المتعددة الجنسيات في مهن مهمة مثل عمال السجائر والخياطين وعمال التبغ وصانعي الأحذية.
أقدم ابراهيم الورداني، عمره 23 سنة خريج كلية الصيدلة، على اغتيال رئيس الوزراء المصري بطرس باشا غالي. وتلقى الورداني علومه في لوزان وباريس، وكان وصل لتوّه إلى مصر قادماً من لندن. وأُعدم الورداني في 28 يونيو 1910.
وفقاً لتقارير الشرطة المصرية، كانت الأناركية إيديولوجيا شعبية بين المصريين الأصليين في 1910. وقد أصبحت مبادئها مألوفة بشكل متزايد واستقطبت اهتمام مجموعة واسعة من الأفراد والجماعات ممن يرفضون الوضع الراهن، خصوصاً أولئك المنخرطين في نشاطات مناهضة للبريطانيين والوطنيين المصريين. والورداني الذي نفّذ الاغتيال هو من المناصرين المتحمّسين لمصطفى كامل، وقيل أنه خالط "الثوريين والأناركيين" الروس خلال دراسته في لوزان. ولدى عودته إلى مصر، لعب دوراً جوهرياً في النقابات العمّالية وفي المدارس الليلية للعمّال التابعة للحزب الوطني المصري. ويكشف مصدر بريطاني أن هؤلاء العمّال المنتمين إلى طبقات دنيا مصرية تلقوا دروساً في المبادئ الثورية وحملوا كرهاً ممنهجاً للقوة المحتلّة. كما ادّعى البريطانيون أن الورداني، وفي مناسبات عدّة، أظهر ميلاً واضحاً نحو المبادئ الأناركية (وليس الاشتراكية). وختم التقرير بالقول: "هذا ما يجعل تعيينه منظّماً لنقابات العمّال ومحرّضاً على الإضرابات يشير بوضوح إلى مدى تهور هؤلاء القادة فيما يتعلق بالوسائل التي هم على استعداد لتوظيفها من أجل تعزيز مشاريعهم، ويكشف مسؤليتهم الأخلاقية عن أي أعمال عنف جرّاء ذلك." ورغم أن الورداني نكر بشدة المزاعم القائلة إنه أناركي، قد لا تكون أفكاره وأفعاله السياسية حينذاك مطعّمة بالمبادئ الأناركية. وليس مفاجئاً أن يتسبب فعل الورداني ومحاكمته إثره موجةّ من الذعر ويطلق حمّلة مطاردات شعواء ويفتح تحقيقاً واسعاً في المجتمعات السرية في مصر. وأقيم مكتب شرطة خاص بتنفيذ هذه المهمة. وما لبث أن سُرّبت معلومات تشير إلى وجود 26 منظّمة مماثلة على الأقل، كثير منها تخطط لتنفيذ اغتيالات سياسية وغيرها من أعمال العنف السياسية. وبالتحديد، كانت إحداها تحمل اسم "جمعية التشجيع على التعليم الحر". أعضاؤها 12 "نصفهم طلاّب في الأزهر… ونًمي إلينا أن لدى هؤلاء الشبّان نزعات فوضوية."
1911
في عام 1911 ، أطلقت الدولة المصرية حملة اعتقالات وملاحقات قضائية ضد الأناركيين والنقابيين الأناركيين الإيطاليين. أدّت الحملة إلى ترحيل بعض الإيطاليين.
1911
في القاهرة، نفّذ عمال شركة الترامواي إضراباً، ما لبث أن انضمّ إليهم عمّال شركات الكهرباء والغاز والمياه.
ردّاً على قصف السفن الحربية الإيطالية مدينة بيروت في 24 فبراير 1912، وبعد أربعة أيام من المعركة، أمرت السلطنة العثمانية ولايات بيروت وحلب ودمشق بطرد جميع المواطنين الإيطاليين، ما أدى إلى ترحيل أكثر من 60 ألف إيطالي من المنطقة.
1919
في سبتمبر 1919، بعد صيف من الإضرابات، تم ترحيل العاملَين الإيطاليين ماكس دي كولالتو (ناشر "روما" وعضو في الجمعية الدولية لموظفي القاهرة) و غيسيبي بيزوتو (إشتراكي ثوري وعضو نقابة عمال المطابع).
1921
في أغسطس 1921، تأسس الحزب الاشتراكي المصري، سلف الحزب الشيوعي المصري. وبوجود مقرّه العام في القاهرة وفروع أخرى في الإسكندرية ومنطقة الدلتا، نجح حتى أواخر 1922 في استقطاب 1500 عضو من المواطنين المصريين والأجانب المقيمين. وكان برنامجه مناهض للامبريالية يدعو إلى تحرير وادي النيل (مصر والسودان)، ومناهض للرأسمالية. وهو يدين مبادئه الاقتصادية والاجتماعية بشدة للأناركية، رغم أنه اعتمد سياسات برلمانية. ووفقاً لأحد قادته، جوزيف روزنتال، هدف الحزب:
"إلى الدفاع عن مصالح العمّال في البرلمان ومواقع أخرى، وإلى العمل على دفع الحكومة لسن قوانين اجتماعية لحماية العمّال، الذين كانوا تحت رحمة الرأسمالية وطغيانها."
كلمات روزنتال تلك، وهو شخصية بارزة في مناصرة السياسات الراديكالية لأكثر من عشرين سنة، توحي بأن كثيرين ممن كانوا مناضلين أناركيين قبل الحرب، انتقلوا إلى الحزب الذي شكّل الوسيلة الأساسية للقوى الراديكالية ضد النظام السياسي التقليدي. وبهذا، أصبحوا على وفاق مع خصومهم الأقربين، أي الاشتراكيين، أي مع من كانوا يخوضون المعارك لنصرة قضايا مشتركة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر.
يصف أنطوني غورمان ظاهرة الأناركية الأممية في مدن جنوب المتوسط بأنها "مجتمعٌ متخّيل لا تحدّه حدود" أنشأه وكرّسه "المنشور الأممي" وليس "المنشور الرأسمالي". وبالفعل، شكّلت الصحافة الأناركية الأممية قناةً حيوية لبث الأفكار ونشرها، تلك الأفكار التي تعبّر عن أن الحركة ترى نفسها أممية في المبدأ والممارسة. ونتيجة لذلك، ظلت الأذرع المشتتة للحركة مترابطة ومطّلعة من خلال شبكة صحافية أناركية متوسّعة منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر.
وكانت المعلومات تتدفّق في الاتجاهين. فكان النشطاء في مصر يشتركون بانتظام في الصحف الأناركية التي تصدر في أوروبا وشمال أفريقيا والأميركيتين، بالإيطالية معظم الوقت، لكن أيضاً بالفرنسية واليونانية. والمناضلون في مصر يساهمون بدورهم بمقالات حول الشؤون المصرية في الصحف الأناركية في الخارج، وتحديداً قبل ظهور الصحافة الأناركية المحلية. وعندما تأسست صحف مثل La Tribuna Libra (المنبر الحرّ) وL'Operaio (العامل)، كانت متاحة لجمهور قراء منتشر في العالم في وسعه تتبّع الأخبار العمّالية والاجتماعية في مصر. ومن بين الصحف التي كان يتصفّحها أناركيون في مصر، Il Libertario (من لاسبيتزيا) وIl Grido Della Folla (من ميلانو) وSocialitis (من أثينا) وLa Rivoluzione Sociale (من لندن) وLe Réveil (من جنيف) وL'Operaio (من تونس) وLa Libertà (من نيويورك) وLa Protesta Humana (من سان فرنسيسكو) وLa Nuova Civilità (من بوينوس أيريس).
نسبة كبيرة من أعداد La Tribuna Libera (ومن الدوريات الأناركية الأخرى التي تصدر في الاسكندرية) كانت تُرسَل إلى الخارج. وهو ما يدل على مدى انتشار هذا المشروع عالمياً ومدى اتصال الاسكندرية بالعالم، وأهمية ذلك بالنسبة إلى تلك الشبكة العالمية. وكان أعضاؤها المنتمون إلى المشهد الأناركي المصري يساهمون بمقالات وتدوينات حول الأناركية بمصر لتُنشر في الدوريات الأناركية في المدن والمناطق المذكورة أعلاه، ويخوضون نقاشات مع رفاقهم الأناركيين على صفحات الدوريات الأناركية الشهيرة، مثل La Révolte التي كان يصدرها جان غراف. فكانوا يتتبّعون أخبار بعضهم بعضاً في شكل وثيق وباهتمام، ويُبدون قلقهم على مصير رفاقهم، ويُرسِلون أخباراً عن أفراد أناركيين ومسارات تنقّلاتهم، ويجمعون الأموال عالمياً لدعم العائلات الأناركية في الخارج، ويدعمون الدوريات الأناركية في إيطاليا والخارج، ويناقشون بحماس وشغف النظريات الأناركية المختلفة.
وهكذا، أدّت الدوريات دوراً مركزياً في ترسيخ وصون هذا المجتمع الدولي وروح التضامن والتكافل، وهو شعور وطّده قدوم أعضاء من الشبكة باستمرار، حاملين معهم رسائل وأخباراً وكتباً ودوريات من رفاق أناركيين. أمّا عابرو السبيل فكانوا يسافرون ويتابعون الأحداث في المدن التي رحلوا عنها من خلال المجلات والمناشير التي يوزّعها أقرانهم على طول حوض المتوسّط.
تناولت الصحف والدوريات جوانب مختلفة من البرنامج الأناركي. ففي الاسكندرية، روّجت الأسبوعية L'Operario (بين 1902 و1903) للأناركية النقابية، وركّزت على قضايا الجمعيات العمّالية والتعليم والصحة العامة. وفي المقابل، اعتمدت Il Domani (الغد 1903) في القاهرة نبرة تحررية عالية. أما Lux! (النور! 1903) المجلة الأدبية نصف الشهرية فقدّمت مناقشات مطوّلة للنظرية الأناركية وممارساتها، في حين أن الأسبوعية الاسكندرانية Risorgete! (انهض من جديد! 1908 - 1910) راحت تدرّج خطاً مناهضاً بقوة لرجال الدين. وفي 1908، ظهرت دورية O Ergatis (العامل) لتشكّلَ "ذراعاً لتحرير المرأة والعامل"، وتستقطبَ جمهور قرّاء باللغة اليونانية. ورغم التباينات في الأساليب والتوجّهات، ما ينطبق بالفعل على Il Domani وL'Operario، كشفت تلك المطبوعات التنوّع الأيديولوجي واللغوي للحركة المصرية. ومنذ 1909، راحت تتشكّل صحافة أناركية أكثر تناسقاً وتنظيماً بناءً على الإجماع الذي حصل في الاسكندرية تلك السنة. وفي السنتين التاليتين، صدرت صحيفتين، هما L'Idea (الفكرة 1909 - 1911) وL'Unione (الاتحاد 1913- 1914)، وتعاون على تحريرهما لجان في القاهرة والاسكندرية، وخاطبتا جمهوراً واسعاً من خلال مقالات بالإيطالية والفرنسية واليونانية.
ورغم طابعها المتعدد اللغات، بدا كأن الصحافة الأناركية في مصر لم تضمّ إليها صحفاً بالعربية. ومع ذلك، كانت الأناركية (ومرادفها بالعربية "الفوضوية") تحتل بانتظام مساحة في الصحف العربية التقليدية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وغالباً في نقل نشاطات الحركة في الخارج. وفي نفس الوقت، صحف حداثية مثل "المقتطف" و"الهلال" تضمّنت مقالات تناقش أصول الفكر الأناركي وتطوّره وممارساته، وتكون أحياناً ضمن سياق حركة اشتراكية واسعة. ومنذ 1897، تبنّت "الجمعية العثمانية" أفكاراً اشتراكية في حين أن مجلّة "المستقبل"، التي ظهرت في 1914 وما لبثت أن أغلقتها السلطات، حملت مقالات سلامة موسى وشبلي شميّل، وهما كاتبان مصريان تأثّرا بالأفكار الأناركية.