يــوتــوبــيــا
تحت شـمس المـتـوسـط

هجرة الأفكار والحركات التحررية من أوروبا
إلى مصر بين 1848 و1920

حوالى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولمّا كان المثقفون العرب يخوضون نهضتهم، وصلت مجموعة من المهاجرين اليونانيين والطليان والأسبان إلى الشواطئ الجنوبية للبحر المتوسط. كانوا عمّالاً، ثوريين وأناركيين، غادروا أوروبا هرباً من الاستبداد والاضطهاد ولجأوا إلى  مناطق أخرى جرّاء فشل ثوراتهم عام 1848. وجلبت ظاهرة الهجرة هذه معها أفكاراً تحررية من القارة الأوروبية إلى مدن واقعة على موانئ مثل الجزائر وتونس وبيروت والقاهرة والاسكندرية، كما غرست بذور رؤية يوتوبية تعذّر نموها في تربة هذه المدن. بيد أن تجارب هؤلاء ظلّت نموذجاً فريداً لإمكانية تلاقي المهاجرين في مدن واقعة على موانئ والتعاون عبر اتحادات عمالية ومبادرات مثل الجامعات الحُرّة والصحف والدوريات، وتقاطُعِها في لحظة تاريخية وتحولها إلى عوامل تغيير جذري.

وفي هذا العرض، نسعى إلى استشراف تاريخ تلك الحركات الراديكالية، وخصوصاً الحالة المرتبطة بالأناركيين الطليان في مصر، في محاولة لتقديم سردية بديلة لحقبة أرست أسس القومية العربية في القرن العشرين. وفي الوقت نفسه، نستشرف الموضوعات التي عملت على تحديد العلاقة غير المتكافئة بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها، وخصوصاً بين المجتمعات في شمال حوض المتوسّط وجنوبه، وبداية المرحلة الصناعية والتنظيم العمّالي والانتشار الحُرّ للمعلومات والصحف.

منذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأت موجة هجرات من أوروبا إلى جنوب البحر المتوسط سبّبتها تغييرات اجتماعية وسياسية، من بينها فشل "ربيع الأمم" في 1848 - وهو سلسلة من التمرّدات الكبيرة ضد الأنظمة المَلَكية والاستبدادية في القارة الأوروبية - مما أدّى إلى لجوء كثير من المناضلين، معظمهم من الاشتراكيين والأناركيين، إلى المدن الجنوبية، لاسيّما منها طنجة والجزائر والقاهرة والاسكندرية وبيروت.

بالصناعة والديون:
الإستعمار يحكم قبضته على مصر

في كتاب "الدَين: أول 5000 سنة"، يوضّح مؤلّفه ديفيد غريبر أن التباينات الاقتصادية الراسخة تنشأ عندما تُحبَط مسبقاً ونهائياً القدرة على سداد ديونٍ معيّنة كان سدادها ممكناً، وهو الأمر الذي ينشئ علاقة اجتماعية لصوصية تنهب ثروات المَدينِين وتودعها جيوب الدائنين.

وفي منتصف القرن التاسع عشر، كانت مصر ترزح تحت أزمة سياسية عميقة. ومع عجزها عن خدمة الدَين الذي تراكم جرّاء تمويل مشاريع بنُى تحتية باهظة وأسلوب عيش الخديوي اسماعيل الباذخ، أُرغِمَت مصر على الإذعان لسيطرة أوروبية على خزينتها في 1876. وبعد ثلاث سنوات وبضغط أوروبي، تمت تنحية اسماعيل ليخلفه ابنه توفيق الذي بذل كل جهوده لإرضاء دائني مصر. ونتيجة لذلك، نشب نزاع على السلطة بين نخبة تركية - قوقازية وضباط وطنيين مصريين بقيادة أحمد عُرابي الذي سعى إلى تشكيل حكومة دستورية. وفي مطلع 1882، جابهت عُرابي، وكان وزيراً للدفاع، حكومتا بريطانيا وفرنسا اللتين قررتا الدفاع بشراسة عن الاستثمارات الأوروبية وعن مواطنيهما المقيمين في مصر.
وكمعادٍ للأجانب، تلقى عُرابي بالفعل دعماً من عناصر شكّلتها جاليات أجنبية، من بينهم عمّالٌ إيطاليون في الاسكندرية وعددٌ من الأناركيين. فقصف البريطانيون الاسكندرية وأنزلوا فيها قواتهم التي شنّت هجوماً على عُرابي وهزمته أخيراً في التل الكبير في شهر سبتمبر. وما لبث البريطانيون أن احتلوا سريعاً الأجزاء الباقية من البلاد.

موسم الهجرة إلى الجنوب

كان برنامج التحديث الذي اعتمده محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر وانضمام مصر تدريجاً إلى النظام الرأسمالي العالمي في النصف الثاني، قد أخذ يقوّض البُنى الاجتماعية والاقتصادية القائمة. ذلك أن تعاظم التجارة الأجنبية والطلب على كميات كبيرة من السلع واستيرادها وتدفّق رساميل الاستثمار في شركات الاستملاك، فضلاً عن ازدهار قطاعَي الزراعة والصناعة في مصر، كل ذلك أدّى إلى تغيير بالغ في دور النقابات اقتصادياً واجتماعياً كما في سِمات الطبقة العاملة. وعلى الضفة الأخرى، كان لفشل ثورات 1848 (ربيع الأمم) في اوروبا وقع كبير على الحركات الثورية، خاصة ايطاليا،

وحصلت أولى موجات الهجرة المهمة إلى مصر أثناء فترة الازدهار بين 1860 و1870. وبحلول 1897، كان بين 15% و20% من سكان الاسكندرية، البالغ عددهم 320 ألف نسمة، من حوض المتوسط. وإلى جانب سكانها المصريين الأصليين، احتضنت المدينة عمّالاً يونانيين وطليان وأرمن ومالطيين وسوريين وسواهم. وبحسب دراسة للباحثة إلهام خوري-مقدسي، انخرط هؤلاء العمّال المتوسطيين في كل الأنشطة المهنية، في الحِرف كما في الصناعات الخفيفة، أما النِسب المرتفعة من العمّال المهاجرين فتميّزت بها الموانئ وسكك الحديد ومصانع التبغ. وقدّر إحصاء 1897 وجود القوى العاملة من غير السكان الأصليين بنحو 5% في القطاعات الصناعية والتجارية والخدماتية، معظمهم يعمل في مصانع الاسكندرية والقاهرة. وفي بعض القطاعات كانت النسبة أعلى بكثير؛ فما يزيد عن 50% من العمال في مصنع التعدين في الاسكندرية كانوا إيطاليين، وحوالى 20% من عمّال البناء كانوا غير مصريين (معظمهم طليان)، ونسبة مماثلة من العمّال غير المصريين استُخدموا في صناعة الألبسة.

ومع الوقت، تزايدت أعداد هذه البروليتاريا العابرة للمتوسط. ووفقاً لأحد التقديرات، كان حوالى ربع عمّال السكك الحديد في مصر في 1907، من الأجانب، ما يشكّل تقريباً 5 آلاف عامل في أكبر قطاع توظيف في المُدن. وبحلول 1917، بات العمّال القادمون من جنوب أوروبا يمثّلون نحو 20% من عدد عمّال القطاع الصناعي في الاسكندرية. غير أن كثيرين من هؤلاء العمّال المهاجرين من عابري المتوسط إلى مصر لم يكونوا أجانب غرباء تماماً - أو على الأقل ليسوا غرباء بالطريقة نفسها - نظراً إلى أنهم كانوا من الرعايا العثمانية.

وفي قطاعات معيّنة، وخصوصاً صناعة التبغ والخياطة، كان العمّال العثمانيون - وهم يونانيون وأرمن وسوريون ويهود من البلقان - يشكّلون شطراً كبيراً من القوى العاملة. وفي أحد الإضرابات التي نظّمها الخيّاطون في القاهرة في 1901، هُتِفت شعارات باللغة التركية، بينما كان عمّال التبغ والخياطون يتظاهرون في شوارع العاصمة. وحمل المحتجون بكل فخر لافتات اتّحادهم المكتوبة بلغات متعددة، مع شعارهم مكتوباً بالعربية والإيطالية واليونانية واليهودية - الأسبانية والأرمنية. وعندما وصل المتظاهرون ألى ميدان الأوبرا في القاهرة، كان عددهم قد بلغ حوالى الثلاثة آلاف.

كان العمّال المهاجِرون والعابرون ناشطين في شكل مميّز وحضورهم فائض في الإضرابات، سواء في المشاركة أم القيادة. وكانت أسماء أجنبية مرتبطة بالإضرابات تبرز باستمرار وأصحابها في أعلى درجات السُلّم التنظيمي من ناطقين ومحرّضين ومنظّمين. وكان الأجانب في طليعة من قاموا بتعبئة زملائهم العمّال للعمل الجَماعي، ونشر العرائض في الصحف، وتداول المنشورات والبيانات متعددة اللغات التي تروج للأفكار الاشتراكية أو الأناركية أو الأناركية النقابية.

وبين 1870 و1890 تقاطر العمّال من البلقان وإيطاليا وأسبانيا إلى مصر وشمال أفريقيا وأجزاء مختلفة من شرق المتوسط والأناضول، حيث كانت الزيادة في الأجور الحقيقية الأعلى في محيط حوض المتوسط. بعضهم أقاموا طويلاً في المدن التي حلّوا فيها؛ وبعضهم الآخر جاء من المواسم أو كانوا عابري سبيل. أما بيروت (وسوريا عامّةً) فاستقطبت العمّال العابرين - من بينهم العمّال الطليان والمسيحيون واليهود من أوروبا الجنوبية والوسطى والشرقية، من الحِرفيين. ورأى معظم المراقبين أن الإضرابات التي نفّذها عمّال الفحم لرفع أجورهم في بور سعيد حصلت نتيجةً لشكل جديد مميز من الاستغلال الرأسمالي الماركسي، حيث يبيع العمال الذين جُرّدوا من وسائل عيشهم قوة عملهم مقابل أجر للرأسماليين.

لاجئون بحثاً عن يوتوبيا

ظهرت الأناركية في مصر أولاً بين اللاجئين السياسيين والعمّال الطليان خلال ستينيات القرن التاسع عشر. وقد غذّتها شبكة عمّال عالمية في طور النشوء، والاتصالات والمواصلات عبر المتوسط، فتوسّعت خارج الأوساط الإيطالية لتستقطب، على مدى عقود تلت، أعضاء أتوا إليها من المجتمعات الإثنية والدينية المتتنوّعة.

ولعلّ الإمبراطورية العثمانية عموماً، ومصر بخاصة، كانت تؤوي الثوريين الأوروبيين منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، بمنح حق اللجوء للإيطاليين كما للمشاركين في ثورات 1848 الذين فرّوا من أوروبا جرّاء أعمال القمع. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر، بدأ الأناركيون الإيطاليون يتوجّهون إلى هناك لعدد من الأسباب. فبالنسبة لبعضهم باتت الإمبراطورية العثمانية تجسد الاستبداد والقمع، والثورة فيها ستؤدّي حتماً إلى تدميرها واستبدالها لاحقًا، بـ "اتحادٍ جمهوري لمقاطعات البلقان مع القسطنطينية كمدينة حرة"، على حد تعبير أحد الأناركيين البارزين. وشارك عدد من الأناركيين في نضالات التحرير التي حصلت في مقاطعات عثمانية مختلفة، لاسيّما منها جزيرة كريت في 1866 و1896، على أمل التعجيل في تدمير هذا الكيان الاستبدادي.

في السنوات الأولى للاحتلال البريطاني (1882 -)، ابتليت الحركة الأناركية في مصر بالتشرذم والخلافات والانشقاقات. وكانت الأناركية قد ظهرت في أوروبا كإيديولوجيا سياسية أساسية، وأكثرها حيوية في إيطاليا وأسبانيا، وما لبثت أن انتشرت في كل العالم، من أميركا الجنوبية إلى شرق آسيا، في حين كان أنصارها يفرّون من أوروبا هرباً من القمع الذي اشتدّ إثر موجة من التفجيرات والاغتيالات السياسية في تسعينيات القرن التاسع عشر. وفي ذلك الوقت، كانت المدن المصرية متّصلة في شكل وثيق بشبكات الإعلام والاتصالات العالمية، فكانت تصلها الأخبار سريعاً من كل أنحاء العالم، بفضل التلغراف ووكالات الأنباء ونظام بريدي موثوق ووفرة من الدوريات. وتدفّق الناس كما البضائع إلى هناك بيسر وانتظام، عبر قناة السويس، وشبكة سكك حديد مترامية، وسفن بخارية تربط الاسكندرية بباقي أقطار العالم، وتحديداً بإيطاليا. وبالنسبة إلى الأناركيين الأمميين الدائمي الحركة والتنقّل، كان الوصول إلى هذا النوع من البنية التحتية أمراً حيوياً.

وتم الحفاظ على علاقات منتظمة مع مجموعات في تونس وفلسطين ولبنان، فيما كان الناشطون الأفراد يعبرون المتوسّط روحة وجيئة أو يتبعون الخط الساحلي لشمال أفريقيا، مستفيدين من شبكة بناء على توصية شخصية ورؤية أيديولوجية مشتركة. وكانت تلك الصلات تعمل خارج نطاق المتوسط، فتتواصل مع المراكز الأوروبية الرئيسية، وتتوسّع أيضاً عبر الأطلسي.

كانت غالبية الأناركيين من الحرفيين المَهَرة، نجّارين وبنّائين وصنّاع أثاث وإسكافيين وحجّارين وخياطين، وهي ظاهرة تفسّرّها المزايا التي يتحلّى بها التجار الحاذقون ويتفوّقون بها على عمّال المصانع، مثل التقليد النقابي الراسخ والمستوى التعليمي الأفضل والأمان الاقتصادي الأكبر. وأتى بعضهم من البورجوازية الصغيرة، وبخاصة البقّالون وصنّاع المجوهرات وأصحاب الحانات والخمّارات الذين كانت توفّر محلاتهم أمكنة مؤاتية للاجتماعات. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، انتقل ثقل الحركة من محور الحرفيين نحو الطبقة العاملة الجديدة، وخصوصاً نحو عمّال التبغ والمطابع وموظفي الشركات الكبيرة الجديدة والمؤسسات العامة، مثل شركات الترامواي.

واجهت الحركة الأناركية مصاعب كبيرة في مصر. تعسّف الدولة بشن حملات مشدّدة من المراقبة والملاحقة وأحياناً الترحيل، لا شك أنها أنهكت الحركة وأعاقتها مثلما فعل تصنيفها من قبل السلطات كمجموعة مغامرين سياسيين منحلين يروّجون لأفكار غريبة.

غير أن الإنجاز الذي حقّقه الأناركيون في صوغ خطاب مناهض للرأسمالية في القرن التاسع عشر، وفي الدعوة إلى التحرر الاجتماعي وتحرير وعي العمّال، استأثرت به، منذ بداية عشرينيات القرن العشرين، قوى أخرى أبرزها الحزب الشيوعي المصري والحركة الوطنية المصرية.

جدول زمني للأحداث:

تضامن أممي في منشور

يصف أنطوني غورمان ظاهرة الأناركية الأممية في مدن جنوب المتوسط بأنها "مجتمعٌ متخّيل لا تحدّه حدود" أنشأه وكرّسه "المنشور الأممي" وليس "المنشور الرأسمالي". وبالفعل، شكّلت الصحافة الأناركية الأممية قناةً حيوية لبث الأفكار ونشرها، تلك الأفكار التي تعبّر عن أن الحركة ترى نفسها أممية في المبدأ والممارسة. ونتيجة لذلك، ظلت الأذرع المشتتة للحركة مترابطة ومطّلعة من خلال شبكة صحافية أناركية متوسّعة منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر.

وكانت المعلومات تتدفّق في الاتجاهين. فكان النشطاء في مصر يشتركون بانتظام في الصحف الأناركية التي تصدر في أوروبا وشمال أفريقيا والأميركيتين، بالإيطالية معظم الوقت، لكن أيضاً بالفرنسية واليونانية. والمناضلون في مصر يساهمون بدورهم بمقالات حول الشؤون المصرية في الصحف الأناركية في الخارج، وتحديداً قبل ظهور الصحافة الأناركية المحلية. وعندما تأسست صحف مثل La Tribuna Libra (المنبر الحرّ) وL'Operaio (العامل)، كانت متاحة لجمهور قراء منتشر في العالم في وسعه تتبّع الأخبار العمّالية والاجتماعية في مصر. ومن بين الصحف التي كان يتصفّحها أناركيون في مصر، Il Libertario (من لاسبيتزيا) وIl Grido Della Folla (من ميلانو) وSocialitis (من أثينا) وLa Rivoluzione Sociale (من لندن) وLe Réveil (من جنيف) وL'Operaio (من تونس) وLa Libertà (من نيويورك) وLa Protesta Humana (من سان فرنسيسكو) وLa Nuova Civilità (من بوينوس أيريس).

نسبة كبيرة من أعداد La Tribuna Libera (ومن الدوريات الأناركية الأخرى التي تصدر في الاسكندرية) كانت تُرسَل إلى الخارج. وهو ما يدل على مدى انتشار هذا المشروع عالمياً ومدى اتصال الاسكندرية بالعالم، وأهمية ذلك بالنسبة إلى  تلك الشبكة العالمية. وكان أعضاؤها المنتمون إلى المشهد الأناركي المصري يساهمون بمقالات وتدوينات حول الأناركية بمصر لتُنشر في الدوريات الأناركية في المدن والمناطق المذكورة أعلاه، ويخوضون نقاشات مع رفاقهم الأناركيين على صفحات الدوريات الأناركية الشهيرة، مثل La Révolte التي كان يصدرها جان غراف. فكانوا يتتبّعون أخبار بعضهم بعضاً في شكل وثيق وباهتمام، ويُبدون قلقهم على مصير رفاقهم، ويُرسِلون أخباراً عن أفراد أناركيين ومسارات تنقّلاتهم، ويجمعون الأموال عالمياً لدعم العائلات الأناركية في الخارج، ويدعمون الدوريات الأناركية في إيطاليا والخارج، ويناقشون بحماس وشغف النظريات الأناركية المختلفة.

وهكذا، أدّت الدوريات دوراً مركزياً في ترسيخ وصون هذا المجتمع الدولي وروح التضامن والتكافل، وهو شعور وطّده قدوم أعضاء من الشبكة باستمرار، حاملين معهم رسائل وأخباراً وكتباً ودوريات من رفاق أناركيين. أمّا عابرو السبيل فكانوا يسافرون ويتابعون الأحداث في المدن التي رحلوا عنها من خلال المجلات والمناشير التي يوزّعها أقرانهم على طول حوض المتوسّط.

تناولت الصحف والدوريات جوانب مختلفة من البرنامج الأناركي. ففي الاسكندرية، روّجت الأسبوعية L'Operario (بين 1902 و1903) للأناركية النقابية، وركّزت على قضايا الجمعيات العمّالية والتعليم والصحة العامة. وفي المقابل، اعتمدت Il Domani (الغد 1903) في القاهرة نبرة تحررية عالية. أما Lux! (النور! 1903) المجلة الأدبية نصف الشهرية فقدّمت مناقشات مطوّلة للنظرية الأناركية وممارساتها، في حين أن الأسبوعية الاسكندرانية Risorgete! (انهض من جديد! 1908 - 1910) راحت تدرّج خطاً مناهضاً بقوة لرجال الدين. وفي 1908، ظهرت دورية O Ergatis (العامل) لتشكّلَ "ذراعاً لتحرير المرأة والعامل"، وتستقطبَ جمهور قرّاء باللغة اليونانية. ورغم التباينات في الأساليب والتوجّهات، ما ينطبق بالفعل على Il Domani وL'Operario، كشفت تلك المطبوعات التنوّع الأيديولوجي واللغوي للحركة المصرية. ومنذ 1909، راحت تتشكّل صحافة أناركية أكثر تناسقاً وتنظيماً بناءً على الإجماع الذي حصل في الاسكندرية تلك السنة. وفي السنتين التاليتين، صدرت صحيفتين، هما L'Idea (الفكرة 1909 - 1911) وL'Unione (الاتحاد 1913- 1914)، وتعاون على تحريرهما لجان في القاهرة والاسكندرية، وخاطبتا جمهوراً واسعاً من خلال مقالات بالإيطالية والفرنسية واليونانية.

ورغم طابعها المتعدد اللغات، بدا كأن الصحافة الأناركية في مصر لم تضمّ إليها صحفاً بالعربية. ومع ذلك، كانت الأناركية (ومرادفها بالعربية "الفوضوية") تحتل بانتظام مساحة في الصحف العربية التقليدية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وغالباً في نقل نشاطات الحركة في الخارج. وفي نفس الوقت، صحف حداثية مثل "المقتطف" و"الهلال" تضمّنت مقالات تناقش أصول الفكر الأناركي وتطوّره وممارساته، وتكون أحياناً ضمن سياق حركة اشتراكية واسعة. ومنذ 1897، تبنّت "الجمعية العثمانية" أفكاراً اشتراكية في حين أن مجلّة "المستقبل"، التي ظهرت في 1914 وما لبثت أن أغلقتها السلطات، حملت مقالات سلامة موسى وشبلي شميّل، وهما كاتبان مصريان تأثّرا بالأفكار الأناركية.